ما زلت اتذكر جدي رحمه الله بعد النكبة بربع قرن تقريبا وفي بيته الثاني وبلده الثاني بمدينة طولكرم في الضفة الغربية والذي يبعد قرابة 15 كم عن بيته الأول في خربة بيت ليد بالقرب من البحر الابيض المتوسط داخل فلسطين المحتلة عام 1948, وهو يتأمل في ذكريات طويله حيث أُشتهر بأداء مميز للقصة وكان ياتيه الرجال والنساء ليسمعوا له روايات ذات طابع بطولي ما يكفي لانجاز شيء ما على سلم القضية الفلسطينية , فكان يؤدي كما لو أنه منظومة من الذكريات الاجتماعية والسياسية وبعضها اقتصادية يتجلى بها حبه لوطنه وأرضه ويتحدث عن اصطصلاح الأرض قبل مائة عام أو يزيد . تسللت ذات مره لغرفة جدي رحمه الله وبهدوء طفل بريىء محاولا التأدب وخائفا مبديا الحب له دون أن يشعر فوجدت عينه تدمع فخجل مني خجل الرجال وعزة المخلصين فانتبه وسألني ماذا أريد فقلت لا اريد شيئا الا اني أحب أن اسمعك وأجلس معك , فرحب ترحيبا مشروطاً ببقاء الحب والأدب الذي أدعيه أحسست حينها كم حجم المأساة التي يعيشها جدي حيث استرسل قائلا ان بلادنا اغتصبت وحرماتنا انتهكت وبيوتنا هدمت وأشجارنا قطعت وأرضنا سلبت وها أنا أعيش بقية حياة , آمُل رؤية بلدي بيت ليد48 قبل موتي لأدفن فيها. شعرت حينها أن ثمة حرقة في صوته وألم ممزوج بأمل , قلت في نفسي كيف لا , فان عشنا فترة من زمن في بيت نستأجره في مدينة ما في بلد ما فتشعر وكأنه اصبح جزء منك وأنت جزءاً منه لنمط عيش وأسلوب حياة وقد لا تحمل هوية البلد ولا جنسيتها وان مررت بها ذات يوم يعتصرك ألم ممزوج بفرح لأنك شاهدتها ويدفعك هذا لتتلفظ بعبارات ما كنت لتقولها لولا مرورك بها وأحسب أن الوطن له قيمة أعلى من ذلك وكيف عندما يكون محتلا فهو أغلى وأنفس من كل الاشياء . ومما رواه جدي انه أُخرج وبقوة السلاح من ارضه وكان الإعلام ضعيفا بل كان معدوما ومعظم من خرج يتحرك نحو الشرق لجوءا لجبال الضفة الغربية , فمن كان في حيفا وعكا تحرك عبر البحر للبنان وسوريا ومن كان في المنطقة الجنوبية ذهب الى غزة ومصر وأما المنطقة الوسطى يافا وما حولها تشتت لعدة جهات على ان يعودوا بعد بضعة أيام , كثرت الاجتهادات والآراء فذهب به المطاف الى مدينة الطيبة وهي بمحاذاة مدينة طولكرم , فلجأ اليها نظرا لوجود عديله هناك وكان والدي رحمه الله شابا وعمي حفظه الله بمقتبل العمر حيث أصيب برصاصة أثناء اللجوء ولكن المدينة أصبحت مع الكيان الصهيوني فيما بعد على أثر اتفاقية رودس ما دفعه للرحيل مرة أخرى الى قرية فرعون من قرى طولكرم حيث يعيش خال أولاده , وبعد ذلك رجع الى قرية بيت ليد الشرقية باتجاه مدينة نابلس شرقا ومن ثم عاد ليقترب مرة أخرى من داره الأولى ووطنه وقضى بقية حياته في مدينة طولكرم وهذا شأن كثير ممن عاشوا النكبة . فهل لنا أن نرد لهم الجميل ذات يوم فهم شُرِّدوا من الأرض و ترنو اعينهم ليل نهار اليها وبقيت صكوكهم محفوظة ليومنا هذا ومفاتيحهم معلقة باعناقهم , فلنقف وقفة عز وكرامه ونحرك المسيرات بل نزحف الى حدود الارض المقدسة ومن كل جانب , فشبابنا وقود المرحلة ولتكن هذه السنة من دول الطوق والسنوات الأخرى من كل حدب وصوب . لذا أؤكد إن من يملك القرار لا يعرف ومن يعرف لا يملك القرار, ليعرف كل من في الأرض أن هناك شعب يستحق الحياة . مهلاً تستطيع شرب القهوة Dr.mansour_sal@yahoo.com