
( عـادةً أنا أحضر قبل انطلاق القطار بأكثر من ساعـة ) العقابي ـــــ الـقطار ـ
لمْ ينتظر العقابي انطلاقة قطاره هذه المرّة فصدر ( القطار ) بعد رحيله .
( وصل القطار الى محطته الأخيرة
ـــــ في شمال الأرض ــــــ ) .
( القطار ) مجموعة العقابي الأخيرة صدرت في بغداد قبل اسابيع .
الناشر دار ميزوبوتوميا باثنتين وتسعين صفحة من القطع المتوسط وهي الكتاب الثاني بعد مجموعة قصصية صدرتْ في هذا العام بعد رحيله، ولا تزال مجموعة هايكو صغيرة له تنتظر ناشراً كي ترى النور .
بعدَ انغماس العقابي في الإبداع السردي اتجّه الى تكريس ما يكتبه من شعر للحميمي بامتياز مع ميلٍ الى تناول موضوعة كبيرة في كل مرّة، وهكذا جاء شعره الناضج وخاصةً في ( صيد العنقاء ) و( القطار ) بمثابة استغراق كلّي في موضوعة كبيرة شاغلة وقد قاده اشتغاله السردي الى تخليص شعره من كل ما يمكن معالجته في السرد، السرد الذي انغمس فيه العقابي شاعراً
في البداية ولكنه سرعان ما انحاز الى التفريق بين السرد والشعر فكتب الرواية بنَفسٍ سردي طويل لكنه بقي وفيّاً للشعر فراح يكتبه بشروطه التامة، أي ان العقابي ظل وفيّاً في الغالب لقصيدة التفعيلة التي أبدع فيها جُلَّ قصائده التي تمثله شاعراً أفضل تمثيل، أمّا شعره المنتمي الى النثر فقد جنح الى السرد المشعرن في البداية ثم الى الرواية دون هجران الشعر الحر الخالي من الوزن والتأملات النثرية البرزخية وأعني بالبرزخية تلك النصوص المتأرجحة بين السرد والشعر . يفتتح العقابي ديوانه الأخير المنشور حديثاً ( القطار ) بقصيدة خالية من العنوان وهي قصيدة في مديح القطار، قصيدة من أجمل ما كتبه الشعراء في موضوعة ِالقطار .

أيها الشيخ الوقور
الماضي بثقة وعنفوان
المتجدد برغم مساره المحدد سلفاً
لستَ بالمتهوّر كي تحلم بالطيران
ولا المتصابي كي تتأرجح بخيلاء
لهاثك تسمعه الآفاق
وتمضي بلا كلل
مخلّفاً دخان زفراتك وراءك
وديع حتى وأنت تدرك صلابة قوتك
عميقٌ وشفيف ـ ـ ـ كروح شاعر
مُتسامحٌ ـ ـ ـ حتى مع شاتميك، المتخلفين عن مواعيدهم
قديس أنت ولذا سأبوح لك بأسراري .
العقابي هنا يخاطبُ القطارَ مؤنسِناً إياه بالكامل فقد أسبغ على القطار
صفاتٍ انسانية رفيعة : ( قديس أنت ) .
هذا المدخل يترك انطباعاً قوياً عن حب الشاعر للقطار، القطار الأوربي تحديداً كوسيلة سفر مثالية وقد استرجع في قطاره الأوربي قطاراً عراقياً نصفه الواقعي معتم وحزين ونصفه الشعري استذكار لــ ( غطار الليل والريل وحمد ) للنواب .
في القطار ( قطار الشاعر ) فسحةٌ للتأمل، فسحة لمشاهدات ووجوه ومحطات وتصفح كتاب باسترخاء و ..و.. وكل هذا وغيره يجده القارىء في قطار العقابي وبريشةٍ فنطازية أحياناً، شهوانية أحياناً اخرى، متأملة في الغالب ومسترجِعةً بين حين وآخر .
حجزتُ بطاقةً
لم أدر ِ ( أين )
ولا ( متى )
يأتي القطار
كأن قطار العقابي ليس قطاره وحده، انه قطارنا جميعاً نحن الــــ :
الواقفون جميعهم كانوا من الغرباء،
طابورٌ طويل ٌ
لست أدري كيف قادتني خطايَ اليه
هل ( حشرٌ مع الماضين عيد ؟ )
قطار العقابي أشمل بكثير من القطار الذي أوحى اليه بما كتب :
( هذا القطار هو الأخير وبعده تأتي القيامة )
قطار العقابي اختزال ( زمكاني ) لحياته كلها ماضياً وحاضراً وحدساً
بالآتي .
كأن العقابي كان يحدس برحيله
كلنا في ( القطار)، لا فرق إلاّ بالمحطات فهناك من ترجّل كالعقابي
نفسه وهناك من سيغادر في محطات قادمة، القطار يمر والناس في
انتظاره راكبين ومغادرين ومودعين .
منحت موضوعة القطار الكبيرة الشاملة شاعرها أريحية في التنقّل بين الأشكال الشعرية انتقالاً سلساً يُلغي كلَّ رتابة ويوحي بالإكتناز ففي هذه المجموعة وظّف العقابي كلّ أشكالاً وصِيَغاً شتّى حتى اللهجة وما يشبه التناص، فضلاً عن السرد المشعرن
والسَرْيَلَة والهايكو والإسترجاع واستخدام الحرف اللاتيني لكلمة هنا وشبه جملة هناك دون نسيان الغنائية فغنّى أيضاً :
لا شيء في كفي سوى جمر الشجن .
العقابي شاعر مضمون إذا جاز التعبير وليس شاعر أشكال ومع ذلك
طاوعته الأشكال في هذه المجموعة واستجابت لمقاصده الشعرية
دون أي تصنّع أو عتعتة .
ولم ينس الشاعر تأصيل تسمية القطار نفسه فكتب هايكو يفي بالغرض :
نَـسَقٌ مِن جِـمال :
قطار
يقول لسان العرب
تُؤكد مجموعة ( القطار ) عنفوان شاعرها الإبداعي وكان يمكن
أن تكون حلقةً في عقد ابداعي أكبر كمّاً ونوعاً لولا انّ رحيله المبكّر قطع
الرحلة قبل الوصول الى المحطات الأخيرة .
أنهض مبتهجاً وأقول لنفسي :
ان قطاري قد وصل الكوت
سيظل قطارك يا حميد يمرّ ما دام في الدنيا قطارات وسيراك الواقف في المحطة بانتظارك، سيراك جالساً على كل مقعدٍ فارغ فقد جلستَ هنا وجلست هناك والقطار كله قطارك، أليس كذلك ؟
جمال مصطفى