
جلس ساعة المغيب فوق الرمال الباردة، وأرسل ناظره بعيدا حيث خط الأفق يقطع صفحة الماء، وأخذ يتأمل المنظر طويلا، فخامره إحساس قوي بالارتياح. حول بصره إلى ضفة الشاطئ فرأى الأمواج تتهادى في سكينة محملة بالزبد. أطرق حزينا مغموما، ودفن وجهه في كلتا راحتيه. فقد زمام السيطرة على مشاعره فتلألأت في عينيه دمعتان وسرعان ما أجهش بالبكاء.
سقط نبأ وفاة والده على قلبه كالصاعقة، فظل فاغرا فاه من شدة الذهول. وفي لحظة لا تنسى أحس أن جسمه كاملا يتشظى في الفراغ . هل يمكن تصديق ما حدث ؟ لقد شيع مع جماعات الرجال والنساء نعش الراحل إلى مثواه الأخير. وهذه أكوام التراب تنهال على الفقيد وهو مكفن في جوف القبر...
رباه ! انها مأساة كبرى ! أمعقول ما حصل ؟ رحل الأب والسند والصديق. تعثر فجأة في السجاد وهو قائم يحث الخطى لصلاة الفجر. لقد تلقى صدمة عنيفة في الرأس نقلته من عالم الأحياء إلى مملكة الأموات. داهمه شبح الموت واقتنص منه الحياة. فاللهم لا اعتراض !
قطع حبل هواجسه وكف عن البكاء، ثم كفكف دموعه، وانتصب واقفا مثقل الرأس بالهم...
الدنيا تجثم ثقيلة فوق صدره، الحزن يعتصر قلبه...
واصل السير مهدم الخطوات وسحب من قلب كسير تنهدة حارة. أحس بالتعب يتغلغل إلى كل جزء من جسده، فتضاعف يأسه، و تملكته رغبة جامحة في الارتماء على الأرض وافتراش الرمل. غاص المكان في ظلمة الليل، فأحس بغربة قاتلة تجتاح قلبه، و خيل إليه في لحظة خاطفة أنه وحيد في هذا العالم.
كانت الريح تكنس الشارع، ولا تنبعث من المصابيح المصطفة على طول كل رصيف سوى خيوط ضعيفة من النور. وقف أمام باب البيت ووقع على سطحه نقرات خفيفة، وانفتح الباب عن وجه عابس مجهد فاتر الملامح.
كان الله في عون هذه الأم! من سيدة متزوجة مصونة إلى أرملة مهيضة الجناح.
وجلسا جنبا إلى جنب فوق فراش متهرئ و قد خيم السكون على البيت. ظلا طويلا معتصمين بالصمت و كلاهما ينتظر من الآخر أن ينطق ولو بكلمة واحدة. ومرت ساعة، وساعتان، وكلاهما لم ينبس ببنت شفة.
و أخيرا تكلمت الأم :
- أين كنت طوال اليوم يا إدريس ؟
أجاب الابن بهدوء :
- كنت في الشاطئ.
انزعجت الأم وتصلبت قسمات وجهها:
- ألا ترى أن الوقت غير مناسب...
- لا أطيق البقاء هنا ؟
- لماذا ؟
- ليس هناك ما أفعله.
ولم تعد الأم بقادرة على التحكم في أعصابها، وصاحت :
- ما كان يجدر بك مغادرة البيت على الإطلاق. نحن نجتاز ظرفا صعبا، ألا تريد أن تقف بجانبي؟
لم يحر جوابا. أطرق الابن حزينا والندم يعصف بكيانه.
- هل أسخن لك طعام العشاء؟
- لا رغبة لدي في الأكل.
- وهل تبيت دون أكل ؟
- لست جائعا.
انتصف الليل فجر إدريس قدميه في تباطؤ لغرفة النوم. حاول جاهدا أن ينام ولكن لم يغمض له جفن. لقد عاش 18 عاما في كنف أب عطوف. لطالما سقط في أحضانه الدافئة مقبلا أو مودعا. الصداقة بينهما كانت تقوم مقام روابط الدم. كان الراحل أذنا صاغية وانسانا متفهما، والآن يشعر أنه في قمة الفقر. ما الفقر إن لم يكن فقدان الدفء والحب ؟ هل للحياة معنى بدون حب؟
أمسك عن التفكير حين تسلل إليه من الغرفة المجاورة ضوء شاحب. ها هي ذي أمه بدورها تعاني الأرق.
-هوني عليك يا أماه !
- ليتني أستطيع يا بني...
- أنا مثلك تماما، منذ أن أويت إلى فراشي والنوم يهجر جفني.
- عادي جدا... اللهم ألهمنا الصبر والسلوان...
واعتصمت الأم بالصمت. وطال بها التفكير، ثم قالت في النهاية :
- غدا صباحا سنرحل !
- نرحل؟؟!!
- أجل يا بني...
- إلى أين نرحل؟
صباح اليوم الموالي، في القطار، كان الابن جالسا جنب الأم في مقصورة نصف ممتلئة بالمسافرين. ورمى المدينة بنظرة كلها حزن وألم ووداع ولسان حاله يقول:" كيف يكون المستقبل ؟ وأي قدر جديد ينتظرنا هناك؟ ".
مهدي عامري
amrimahdi@yahoo.fr