رسالة الى أبناء مدينتي الناصرية ..

2017-07-10
من الصفات والمزايا التي تُعرَف بها منطقة الناصرية أنها مدينة تاريخ مديد يرجع الى الوف الأعوام اذ يتصل بنشوء المدن الأولى أور واريدو واوروك وقيام دول المدن السومرية قبل أكثر من  خمسة آلاف عام  وقبل هذا في التجمعات الرعوية و الزراعية التي شكلت نواة المدينة حيث يمتد تاريخ هذه الحقبة الى قبل سبعة أو ثمانية آلاف عام ...المنجزات الأنسانية التي حققها السومريون ومن عاش معهم أو لحق بهم في تلك الفترة لاتحصى ولاتعد ، وما العبرة بالعدد فقط وانما بالنوع أيضاً أِذ انهم حققوا منجزات عديدة ورائدة جداً في تاريخ البشرية جمعاء نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : اكتشاف الكتابة ، وهو انجاز يعده علماء التاريخ والأجتماع والأثنيات أحد أعظم انجازين في التاريخ الأنساني كله حيث يعتبرون الأنجاز السابق له اكتساب الأنسان اللغة والمهارة اللغوية ، أي تميزه عن بقية المخلوقات بالنطق والتفاهم عن طريق الكلمة !! ومن المنجزات الأخرى انشاء علم الفلك ومعرفة مواقع الكواكب والنجوم والأجرام السماوية بشكل مازال يذهل علماء الفيزياء والفلك المعاصرين بدقته وتميزه حتى لو قورن بنماذج فلكية أوربية من القرنين التاسع عشر والعشرين بعد تطور علم الفيزياء والفلك في اوربا وبناء المراصد الحديثة ، هذا كان متلازماً مع تطور الرياضيات والمعلومات الرياضية في سومر حتى عُدَ السومريون اساتذة العالَم كله في الرياضيات والحساب ، ولولا تطورهم وبراعتهم في الرياضيات والحساب لما كان في امكانهم البزوغ والتفوق في علم الفيزياء والفلك  ، ومن العلوم التي تطورت في عهدهم أيضاً وعلى أيديهم علم الطب وعلم الأدوية أو الصيدلة ، والكيمياء والتعدين وتمكن الأنسان من استخراج واستخلاص المعادن مثل النحاس والحديد والذهب من الأرض  ، هذا الى جنب التألق في الآداب والفنون والموسيقى ،  فالقيثارة والناي نتاج هذه المنطقة ومثل ذلك النوتة الموسيقية وملاحم الأشعار السومرية وفنون الروي والقص والرسم والنحت، ومن الممكن القول  ان هذه المنطقة كانت نواة المعرفة البشرية أو مهد الحضارة الأنسانية ، وهي مع امتداد منطقة  مابين نهري دجلة والفرات  الى الشمال تشكل منطقة مابين النهرين أو مايسمى في اللغة اليونانية القديمة ميزوبوتاميا .. أنا لا أضيف هنا أي شيء جديد فهذا التاريخ يعرفه حتى طلّاب المدارس في أوربا وفي أميركا الجنوبية على سبيل المثال وان أغفله بعض العرب وبعض العراقيين !!
هذا بالأضافة الى بهاء الطبيعة في المنطقة وكثرة الماء أساس الحياة ونشوء البحيرات منذ أقدم الأزمنة وخصوبة الأرض التي يرفدها النهران فيضيفان لها خصوبة وجمالاً ... سكن المنطقة السومريون الأوائل وتبعتهم هجرات أرامية وكلدانية وعربية ، وللعرب وجود قديم في هذه المنطقة يمتد الى قرون قبل الأسلام . وبعد الأسلام استوطنت هنا قبائل عربية أو فروع من قبائل ، بقيت المنطقة معهم  مزدهرة في العصر العباسي وعاصمته بغداد وأقليمه الرئيس العراق ، فكان لابد ان يتميز سكان المنطقة وارثو هذا التاريخ بحب المعرفة وعشق الأدب والشعور بالفخر والهيبة وبنفس الوقت بالقابلية على قبول الآخر واحترام الأختلاف في الرأي والمذهب والعرق واللون واللغة والديانة والأصل ، وكان هذا الفهم على حد علمي وتجربتي موجوداً حتى عند الفلّاح البسيط ابن المنطقة الذي يردد دائماً عبارة  ـ موسى بدينه وعيسى بدينه ـ  مُشيراً بهذا بعدم وجوب التفريق بين اليهودي من أتباع موسى والمسيحي من أتباع عيسى وضرورة احترام حرية المعتقد ، ومثل ذلك يردد ( كلنا أولاد آدم )  :  أي ان أبناء الأصل البشري كلهم اخوة.!!
طبع أبناء المنطقة مع الزمن طابع حبهم لمنطقتهم الرافدينية الناصرية وجنوب العراق  ، وطابع حب وطنهم الأكبر العراق فكانوا مثالاً باهراً في الوطنية وحب الوطن ، وقد شهدت لهم ساحات الدفاع عن العراق بالسيف والبندقية وبالقلم والفكر والموقف ولايشك شريف من الشرفاء ولانبيل من النبلاء ولا كريم من الكرماء في وطنية أبناء الناصرية واستعدادهم للتضحية بالغالي والنفيس لأجل وطنهم العراق ، ويروي لي أبناء محافظات عراقية أخرى ان لقب الشجرة الخبيثة الذي يُطلق بعض الأحيان تندراً على منطقة الناصرية أو محافظة  ذي قار انما أطلقه ضبّاط الأحتلال البريطاني الذين واجهوا مقاومة ضارية من أبناء الناصرية وكانت آخر شرارات المقاومة في المنطقة تنطلق من وراء شجرة كبيرة احتشد في سد جذعها المتين القوي مجموعة من الثوار ظلّوا يشاغلون القوات المحتلة ويوقعون فيها الأصابات ويحرمونها من فرصة فرض السيطرة الكاملة على المنطقة والعراق بأكمله الى ان قال أحد قادة جيشهم ان المقاومة والنار تأتي من تلك الشجرة الخبيثة...شخصياً أميل لتصديق تلك الرواية لأن الأعلام والأذاعة والصحف العراقية كانت في معظمها تحت سيطرة حكومة الأحتلال في ذلك الوقت ولأن بعض عشائر الناصرية مثل بني أسد بقيادة سالم الخيون في أهوار الناصرية  ، وبني مالك بقيادة بدر الرميض في المنطقة الممتدة بين الهور والبرية في قضاء الأصلاح الحالي  ، وبني خاقان والسعيد والسعدون في مناطق سوق الشيوخ ، وقبائل العبودة وبني زيد وركاب في مناطق الشطرة قد واصلت القتال الى آخر نفس ماعدا بعض الأستثتاءات الهينة!! .
يروي لي والدي رحمه الله والذي كان مولعاً بالتاريخ  والأدب والشعر أحدى القصص الطريفة عن تلك المناطق أيام زمان فيقول ان أبناء عشيرة آل ابراهيم الساكنة الى جنوب مركز مدينة الناصرية وعلى الطريق المؤدي الى الفهود والأصلاح قد تراجعوا في بداية الأمر عن القتال مؤثرين السلامة  ، وكانوا يتميزون بطول قاماتهم ورشاقة وجمال أبدانهم وان لهم أعناقاً طويلة ، فخرجت نسوة آل ابراهيم مستهجنات مستنكفات ان يتراجع رجالهن عن آداء واجبهم في الدفاع عن الوطن والأرض والعرض مرددات أهزوجة تقول : يركَاب النوكَ اِهضمتونه .. ومامعناه أنتم يا أصحاب الأعناق المرتفعة الطويلة كأعناق النوق  لقد اهنتمونا وهضمتم حقنا في الأفتخار بكم ، فخرج على أثر هذه الأهزوجة رجال آل ابراهيم و وشبابهم مسطرين أروع ملاحم الكفاح ضد المحتل  ، ولم تزل الأهزوجة خالدة في ذاكرة بعض أبناء المنطقة الى الآن لتتناقلها أجيال بعد أجيال .
ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع هو وجود ظاهرة سيئة وقبيحة شكا منها بعض أبناء المنطقة وتناقلت أخبارها الصحف والمواقع الألكترونية وهي للأسف الشديد غريبة عن تاريخ هذه المنطقة النبيل المشرِّف الا وهي الظاهرة المخابراتية أو ظاهرة التجسس والعمل لصالح مخابرات أجنبية واستخدام وسائل الاتصال الحديثة في أغراض دنيئة تخدم المشروع الأجنبي في المنطقة وما جاء لأجله الأحتلال وجنود بول بريمر الذي لو قارنته بالجنرال مود لكان أسوأ بما لا يُقاس ، رغم انني استنكر كل احتلال باعتباره اعتداءً سافراً على حقوق الأنسان وكرامة الأوطان وقدسية الأرض ، وهو قطعاً ضد مباديء الديمقراطية بكل نسخها اليونانية والفرنسية والأميركية ، ولكنهم مع هذا يرتكبونه دون استشارة وتفويض ومع سبق الترصد والأصرار !!.
أود ان أضيف هنا وأقول ان حلم أختراق العراق مخابراتياً كان حلم المخابرات الغربية وحلم المخابرات المهتمة بشؤون الشرق الأوسط ، لكنه كان حلماً صعب التحقق لحب العراقي على العموم لوطنه وأهله  وصلابة شخصيته وعدم اهتمامه بالمنافع والمصالح الشخصية اذا تعلق الأمر بمستقبل وطنه وكرامة شعبه  . وصعوبة اختراق العراقي من قبل أجهزة المخابرات الأجنبية في الماضي مسألة معروفة ويشهد بها مثقفون وكتّاب عرب منهم الصحفي البارع محمد حسنين هيكل ، فما الذي حصل ؟!. 
هناك حتماً أسباب ، والأسباب عديدة و لاشك ان المسألة أو بعض المسألة من مخلفات حكم الحزب الواحد والقائد الأوحد في العراق الذي ربط مصالح الناس في العيش والرفاه والسلامة بتأييده ومساندته وكتابة التقارير له فاستطاع ان يشق العائلة الواحدة ، ويلغي أهمية الوطن الذي حصره في شخصه فمن يحبه يحب العراق ومن يمقته يجب ان يموت لأنه يكره العراق. هكذا للأسف قال الأعلام وبهذه الطريقة وياللخسارة تغنّى الشعراء وتعالت الحناجر بالغناء ، حتى تعلم الناس الأنتهازية والمشي مع القطيع و تزييف المشاعر .. ولم تكن أحزاب المعارضة بأفضل ، فالقائد السياسي المعارض كان جل همه مصالحه الشخصية ورفاه عيشه في الخارج وتحقيق حلمه ان يصبح وزيراً في حكومة جديدة أو نائباً في البرلمان أو محافظاً لمحافظة أو مديراً عاماً في أحدى الوزارات  ، وان تمتليء جيوبه  بالمال حتى لو كان من قوت الشعب  وتكون له أرصدة في الخارج وان يدرس أبناؤه في في الخارج في جامعات النخبة !
في الداخل كنتُ شاهداً على بداية الخراب الشامل حين غادرت العراق مغامراً سراً في نهاية العام  1984  محاولاً التخلص من السجن والأعدام  والموت ومن ملاحقة أجهزة القمع والتي استمرت الى آخر يوم من وجودي في العراق .. وفي الخارج عرفتُ عن كثب وتأكدتُ تماماً كم هو زائف وصغير القائد الحزبي العراقي المعارض على الأعم الأغلب ، بحيث انه يستطيع ان يتحالف مع  أكبر الأشرار لتحقيق طموحاته الشخصية الضيقة التافهة ضارباً عرض الحائط مستقبل أجيال كاملة ومصير وطن برمته !! وهكذا تعاون هذا الثلاثي بأتفاق وبدون أتفاق : أولاً ، حاكم دكتاتور أرعن غاشم ظالم سخر كل حزبه لخدمته ليقوم الحزب فيما بعد بترويض وتسخير الشعب لنفس الغرض  ، وثانياً معارضة يقودها قواد جبناء أخفقوا في الوطن فأرادوا التعويض في الخارج بأي ثمن انتقاماً لنرجسية مريضة مجروحة وطمعاً في سد شعور بالنقص ، وثالثاً عدو خارجي متربص شرس مخاتل  قوي يحلم من زمان في الأنقضاض على هذا الشعب والوصول الى المنطقة لحماية مَن يريد ان يحميه والأنتقام ممن يريد ان ينتقم منه ولتحقيق مصالحه في الأستغلال والتدمير وفرض الهيمنة حتى يكون الجميع في هذا الركن الأرضي عبيده !
وفي هذه المعادلة العجيبة الغريبة تهيأت الفرصة الكاملة للعدو وأهداه الطرفان العراقيان الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة فرصة الفوز ليرسل جنده العلنيين والسريين ثم ليشتغل الفتك والبطش والتنكيل والقتل الجماعي العلني في الشوارع والساحات والحدائق العامة والجامعات والمكتبات والملاعب والطرق الداخلية والخارجية ولم يسلم منه حتى الموتى ، حيث شمل التمثيل والتنكيل مواكب الأعراس في طريقهم الى حفل الزواج والموتى في طريقهم الى المقابر!! ولم نر من الديمقراطية الموعودة ودولة الحريّات والرفاه والتقدم التي ستكون مثالاً للديمقراطية ومن ثم للسلام والحرية والرفاه في الشرق الأوسط كله بأشراف الأميركان وحلفائهم المحتلين سوى الدمار والخراب والأرهاب والموت اليومي على مدى سنوات عديدة .  و رغم وجود الجيش الأميركي بعشرات الآلاف بل مئات الآلاف مع جيوش ثلاثين دولة أجنبية ,لم نشاهد  مثلما يقول المثل الشعبي : لا بوعلي ولامسحاته !! 
فلقد تبخرت الوعود مثلما تتبخر قطرة ماء في صيف عراقي في لعبة اشترك فيها واعدون مزيفون ووسطاء أذلاء صغار وأنذال لاكرامة لهم ولاذمة ولاضمير !!!   
الخسائراِذاً فادحة والهول عظيم والخديعة كبرى ، ولايمكن ضميرياً وأخلاقياً وانسانياً ووطنياً القبول لأبنائنا بمهمة عميل أو جاسوس صغير كي يتحطم وطنهم أكثر ويشقى شعبهم أزيد !!
أقول هنا وأيم الحق ان المصير في مهنة عميل  لهو أتعس مصير يمكن ان يواجهه انسان في حياته وان المنقاد اليه لهو أغبى الأغبياء وأحقر الحقراء وأجبن الجبناء ففي هذا خيانة لحليب الأمهات اللواتي توفي قسماً منهن متأثرات بسرطان  الثدي أو تم بتر أثدائهن وبقين في حياة تعيسة متألمات معانيات وخائفات !!!  وفي هذا خيانة للآباء والأجداد والوطن والشعب ، وخيانة للزملاء والأصدقاء الأطفال الذين أهلكهم الحصار الطويل الذي قضى على مايقارب مليون طفل عراقي وقادته سيدة اميركية اسمها ولقبها البروفسورة مادلين أولبرايت كانت قائدة بعثة بلدها في الأمم التحدة فنفذت الحصار عن طريق الأمم المتحدة التي كان يجدر بها حماية أطفال العالم ، كل أطفال العالم ، لكن هذه السيدة أصرت على معاقبة الطفل العراقي في غذائه ودوائه ليجوع ويمرض فيموت بينما رُقيت هي من قبل حكومة بلدها الى مرتبة أعلى : وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية ، وهي التي ستتعامل مع المعارضة العراقية التي درج قوّادها على الحج الى فنادق واشنطن ونيويورك ليضمنوا مهنة المستقبل وليكونوا أذكياء قبل فوات الأوان !! . أمثال هؤلاء المرضى لاينبغي لأحد أبداً ان يخدمهم ويتعاون معهم ولا يرشحهم لدور أكبر ولاينتخبهم ، واذا كان انتخابهم مفروضاً وانهم سيفوزون حتماً فمن النبل والشجاعة والذكاء عدم انتخابهم للصدق مع النفس !! وفي حالة التأكد من تزوير الأنتخابات بشكل أو بآخر فمقاطعة الأنتخابات المزورة نهائياً حتى لايفوز العميل والخائن عبد الخائن و عبد العدو!!!
أما أبناء مدينتنا الناصرية من المغدورين والضحايا الذين غُرر بهم ، فيجب ان تكون لهم وقفة طويلة مع النفس ، مع الضمير  ، ومع الوطن، واذا كانوا لايعرفون الوطن فوقفتهم يجب ان تكون  مع الأم والأب والجدَّة والجد وخالتهم في المحلة وعمِّهم في الجوار ، ومع كل الأرواح البريئة التي أُزهقت قبل الأوان بكثير ومنها أرواح أتراب وأصدقاء لهم ماتوا في عمر الورود جياعاً ومرضى!! 

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved