(پولاك مربّياً و موّجهاً)
هذا القسم هو فصل مجتزىء من كتاب بعنوان (Moviemakers' Master Class) لمؤلفه الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد.(*)
في مقدمة هذا الفصل المخصص لسدني پولاك كتب تيراد يقول:"حين تجلس مع پولاك تحس أنك في حضرة إنسان بالإمكان الإصغاء إليه لساعات وساعات، ليس بسبب محتوى مايقول فحسب، إنما بسبب شخصيته الجذابة أيضاً.
سيدني پولاك شخص مفكر، كفوء، ومتمرس، إلا أنه عاطفي. إنه يمتلك قوة ونفوذ طبيعيين، لكنه يجعلك دائماً تشعر بطمأنينة تامة. من هنا بمقدوري أن أفهم السبب الذي يدعو الكثيرين من المخرجين إلى دعوته ليلعب أدواراً في أفلامهم، وعادة ماتتوّج تلك الأفلام بنتائج مذهلة.
من المرجح أن پولاك هو أكثر مخرجي هوليوود تمّيزا ً بضخامة ميزانيات أفلامه وإستخدامه لأكبر الأسماء نجومية. أفلامه الأخيرة: سابرينا، القلوب العشوائية، يمكن أن يكونا أقل توتراً وحّدة من أفلامه التي أخرجها في السبعينات أمثال "أيام كوندور الثلاث" و "إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" وربما هي أقل قوة وإكتساحاً من فيلم "خارج أفريقيا". إلا أن ثمة عنصراً واحداً ظل يتواصل في كل تلك الأفلام ألا وهو جودة عنصر التمثيل فيها. الممثلون الذين عملوا معه ذات مرّة طواعية كان سعداء على الدوام بالنتائج لأنها فتحت لهم بوابات واسعة لمشاريع المستقبل. وثمة الكثير من الممثلين ممن لم تتح لهم تلك الفرصة للعمل معه مازالو ينتظرونها بتوق كبير.
كنت أتوقع بالطبع أن حديثي معه سيتمركز حول عمل المخرج مع الممثل، إلا إن الذي أشعرني بالبهجة حقاً هو أن پولاك كان يختزن في جعبته الكثير والكثير ليقوله عن الجوانب الأخرى لعملية إخراج الفيلم".
***
(نص الفصل المترجم من الكتاب)
أنا لم أختر أن أكون مخرجاً سينمائياً على الإطلاق. والغريب أنني تعلمت فن الإخراج نوعاً ما في الآخِر، أي بعد أن أصبحت مخرجاً. وهكذ فقد حدث الأمر معي بشكل معكوس إلى حد ما.
لقد قمت بتدريس فن التمثيل لأربع سنوات أو أكثر حينما إقترح عليّ أحد ما (**) أن أصبح مخرجاً، وقبل أن أعرف تقنية فن الإخراج كنت أخرجت أفلاماً للتلفزيون أولاً وبعدها أفلاماً إلى الشاشة الكبيرة.
لو عدّتَ إلى الوراء قليلاً لوجدت أني لم أكن منجذباً كثيراً لتلك الأفلام ذات التأثير البصري الواسع، بل كل الذي كان يستهويني وقتها هو طريقة الأداء في التمثيل. أما الباقي فهو... ربما التصوير الفوتوغرافي فقط. لكنني فيما بعد وبعد مرور الوقت بدأت أدرك شيئاً فشيئاً أن الإخراج السينمائي هو شيء أشبه بعلم النحو، أو أشبه بمعجم، أشبه باللغة.
وإكتشفت أن القناعة يمكن أن تستمد من إعطاء المتفرج سياق صائب من المعلومات، من خلال الطريقة التي تصوّر بها اللقطات أو أسلوب إعداد وتحديد حركات الكاميرا.
إن ما أدركته حقاً أن الإخراج السينمائي هو بشكل أساسي، كيفية رواية القصة سينمائياً. وأنا لاأعني هنا أنني أعمل أفلام لأروي قصصاً من خلالها. كلا، على الإطلاق. إن إهتمامي الأساسي ينصّب في المقام الأول على تجسيد الوشائج الإنسانية، فهي بالنسبة لي بمثابة مجاز أو إستعارة لكل شيء في الحياة، أخلاق المرء، آراؤه، ميوله السياسية... كل شيء. لذا، فأنا بشكل رئيسي أعمل أفلاماً لأتعلم أكثر عن هذه الوشائج الإنسانية. لكنني في نفس الوقت لاأعمل أفلاماً لكي أتحدث عن أي شيء. كلا، لأنني لو فعلت ذلك، ففي هذه الحال لن أعرف ما الذي سأقول.
جوهرياً، ثمة نوعان من المخرجين السينمائيين، الأول ويمثله أولئك الذين يعرفون الحقيقة ويريدون أن يبلغونها إلى العالم. والنوع الثاني هم أولئك غيرالواثقين تماماً من الإجابة الصائبة على السؤال الأساسي، والذين يعملون أفلامهم كأسلوب لمحاولة المعرفة. وهذا هو بالضبط ما أفعله أنا.
(العثور على العمود الفقري)
المهم جداً هو عدم عقلنة مجرى عملية الإخراج السينمائي بشكل مفرط، لاسيما خلال مرحلة التصوير الفعلي.
من الممكن جداً أن أفكر كثيراً بشأن الفيلم قبل البدء بعمله، وبعده أيضاً بالتأكيد، لكنني أحاول قدر الإمكان أن لاأفكر كثيراً جداً وأنا في موقع التصوير.
طريقتي في العمل هي أن أحاول حسم ما أمكن منذ البدء وبشكل مبّكر، في كل ما يتعلق بـماهية ثيمة الفيلم والفكرة المركزية التي أسعى للتعبير عنها من خلال القصة. وحين أعرف كل ذلك جيداً، وأستخلص منه المبدأ الموحِّدِ، عندئذ سيكون أي قرار أتخذه في موقع التصوير متأثراً بذلك، ولهذا فسيكون متوافقاً في منطق واحد محّدد بالضرورة.
يعتمد نجاح الفيلم بالنسبة لي على أهمية، هل أن الخيارات التي عملتها أنت كمخرج في موقع التصوير، بقيت وفية للفكرة الأصلية أم لا؟
فيلم "أيام كوندور الثلاث" مثلاً، هو فيلم يتحدث عن الثقة. روبرت ريدفورد الذي يلعب الدور الرئيس في الفيلم هو شخصية تثق بالآخرين بسهولة جداً والذي سيتعلم في مسار الفيلم أن يكون أكثر شكوكية.
فاي دوناواي، من جانب آخر، تلعب دور المرأة التي لاتثق بأحد، إلا أنها ستتعلم هي الأخرى من خلال هذه الحالة الدراماتيكية، أن تقول بالضبط ماتعرف وما تفكر به.
الفكرة الرئيسية في فيلم "خارج أفريقيا" تعالج موضوعة المِلكية أو إستحواذ روح التمّلك.
إنها تتحدث عن إنجلترا في سعيها لإمتلاك أفريقيا، وعن صاحبة مزرعة البن كارين بليكس فليك (الممثلة ميريل ستريب) وهي تحاول أن تستحوذ على روح الصياد الإنجليزي، زير النساء الوسيم فينتش هاتون (الممثل روبرت ريدفور) .
لو أخذنا هذين الفيلمين معاً وحللناهما مشهداً فمشهد ولقطة فلقطة، عندئذ يمكنني أن أسوّغ أي خيار كنت قد إتخذته حينها، كمخرج، فيما يتعلق بثيماتهما الشخصية المحددة.
إنها الطريقة التي كثيراً مايحلو لي تشبيهها بفن النحت: أنت تبدأ بوضع العمود الفقري أو شيء أشبه بالهيكل العظمي، ومن ثم تكسوه بالطين شيئاً فشيئاً لحين أن تمنحه شكلاً.
الآن لديك العمود الفقري الذي يحمل كل شيء، وبدونه ستنهار المنحوتة. لكن ينبغي أن لايكون هذا العمود الفقري مرئياً، وإلاّ سيتقوض كل شيء. الشيء ذاته يحدث في الفيلم. إذا إنسحب شخص ما من مشاهدة فيلم "أيام كوندور الثلاث" مثلاً، قائلاً:"أوه، إنه فيلم عن الثقة"، عندها أكون أنا كمخرج قد أخفقت.
ينبغي على المتفرج أن لايكون واع ٍ لذلك. الحل الأمثل هو أنه سيفهم ذلك بطريقة تجريدية. إلا أن الشيء المهم جداً هو أن يكون كل جانب من جوانب الفيلم مترابطاً وملتحماً بإحكام، لأنه مُحرّك ومُحّفز من قبل تلك الثيمة. حتى الديكور ينبغي أن يعكس الفكرة الرئيسية للفيلم، وهو الأمر الذي يجعلنا نعشق الشاشة العريضة.
إن معظم أفلامي المبكرة قد صورت للشاشة العريضة لإنني أحس أنها تتيح لي إمكانية إستخدام خلفية الصورة كإنعكاس أو إستجابة، بإعتباره مجازاً لما يحدث في مقدمة الصورة.
حين عملت فيلم "إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" كنت مصّراً على تصويره للشاشة العريضة، ولم يفهم أحد تعليل ذلك حينها. والسبب هو إن الحدث كان يجري كله تقريباً في الداخل.
من الخطأ الظن طبعاً أن غرض الشاشة العريضة هو فقط من أجل تصوير مشاهد ذات ديكورات ضخمة. إن الهدف الحقيقي إستخدام الشاشة العريضة هو لتشكيل إطارات صور "Frames"(***)، تتضمن داخلها توتراً وحركة شديدين لتصوير لقطات هي بحاجة إلى إحساس بالمكان. لأنك حتى لو صورت شخصين في لقطة قريبة جداً (كلوز آب) مثلاً، فسيبقى لديك حيزاً لرؤية الخلفية ورائهما.
لو أنني صورت فيلم (إنهم يقتلون الجياد...) بإطار صورة مسّطح، فإنك لن ترى سوى شخصين يرقصان ولاشيء آخر. عندئذ سيتلاشى مغزى كل الجنون القائم في المشهد.
ربما شيء يثير التهكم أن الفيلم الأول الذي لم أصوره للشاشة العريضة هو فيلم "خارج أفريقيا".
محتمل جداً أن يبدو ذلك غريباً، لإن فيلماً كهذا يتطلب إطار صورة واسع فعلاً، إلا إنني في ذلك الوقت، أعني أواسط الثمانينات، كنت أعرف أن كثيراً من الناس سيشاهدون الفيلم على شريط فيديو. لهذا السبب لم أكن أريد في الواقع حينها أن يُذبح ذلك الفيلم من على الشاشة الصغيرة.
(إنني أعمل أفلاماً لطرح أسئلة)
الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها عمل أفلام للمتفرجين هي أن تعمل تلك الأفلام لنفسك.
ليس من خلال الغطرسة بالطبع، بل لأسباب عملية بكل بساطة.
ينبغي أولاً أن يكون الفيلم مسّلياً، وهذا شيء جوهري جداً. لكن، كيف يتسنى لك معرفة ما يحب الجمهور وما لايحب؟
أعتقد أنه ينبغي أن تجعل من نفسك مرجعاً لمعرفة ذلك. وهذا ما أفعله أنا. قد أكون مخطئاً في بعض الأحيان، وهذا ماحدث لي حقاً حين أخرجت فيلم "هاڤانا" مثلاً، لكنني رغم ذلك مازلت أفعل اليوم الشيء ذاته!.
إنني أختار المواضيع التي تثيرإهتمامي أولاً وقد كنت محظوظاً بما فيه الكفاية لأن أفلامي في معظم الأوقات كانت مثار إهتمام المتفرجين أيضاً. لكن، هل بوسعي أن أخمّن مايريد المتلقي مشاهدته؟
مهما يكن ومهما حاولت فأنا واثق أنني سأفشل، لأن معرفة ذلك يشبه إلى حد ما حل معادلة رياضية معقدة جداً. وهكذا تراني أعمل افلاماً عن أشياء تأسرني أولاً، أفلاماً عن الوشائج الإنسانية، كما نوهّت سلفاً.
إنني أعمل أفلاماً لكي أطرح أسئلة أكثر مما أعطي أجوبة، أفلاماً من غير الممكن أن تحسم تلك الأسئلة أو تجيب عنها، لإنني لا أحب أن يكون أحد ما على خطأ والآخر على صواب. أما إذا حدث العكس، فعندئذ ليس ثمة مايستحق عمله أصلاً.
إن معظم الأفلام التي أخرجتها تحتوي، ضمناً، على جدل يتعلق بإسلوب حياة شخصيتين مختلفين. وينبغي أن أعترف هنا أنني أميل إلى أن أكون إلى حد ما أكثر تعاطفاً مع النساء قياساً بالرجال. لست متأكداً من معرفة السبب، لكن النساء في أفلامي هن أكثر ميلاً ليكنّ أقل حكمة، أو إنهّن لديهن رؤى إنسانية أعمق نحو الأشياء. وهذا الشيء ثابت وحقيقي ويمكن أن نلمسه في فيلم "الحياة التي عشناها" مثلاً. فلو تأملت الشخصية التي تلعبها الممثلة باربره ستريساند في هذا الفيلم، فستجد أنه على الرغم من الكثير من الأشياء الساذجة بشأن شخصيتها، إلا أنها يمكن أن تكون على الأرجح أكثر صواباً من الشخصية التي يلعبها روبرت ريدفورد. لذا فأن الشيء الأهم بالنسبة لي في هذا الفيلم ومنذ الدقيقة الأولى لبدء العمل، هو تعزيز جانب الرجل، لأن شخصية المرأة هنا رسمت أصلاً أن تكون متقدة عاطفية جداً وملتزمة، أما هو، أعني الرجل، فإنه مجرد رجل، لايشغله أو يقلقه أي شيء.
الشيء الهام والمثير بالنسبة لي، هو كيف يمكنك أن تتخذ قراراً حين يكون الإثنان يحملان وجهة نظر صائبة؟
أنا لاأحمل أفكاراً مسبقة بالطبع. ربما لديّ بعض الأفكاراً المسبقة بشأن ممارسات أخلاقية محدّدة، ولكن لايصل الأمر إلى العلاقة بين شخصيتين. الأكثر صعوبة هو أن تقرر أيهما على صواب وأيهما على خطأ. وأظن أن من الأفضل في الآخِر هو أن يُترك ذلك للفيلم نفسه.
(المخرج يخوض تجربة جديدة في كل فيلم)
ثمة قواعد أساسية محددة في الإخراج السينمائي، إلا أنه يمكن لك أن تحيد عنها دائماً. لكن المهم هو أن تعرف أولاً جوهر تلك القواعد. أما العكس، فهو يشبه أن تطلق على نفسك لقب رسام تجريدي فقط بسبب أنك لا تجيد رسم شيء واقعي، أو كمن يضع العربة أمام الحصان.
بوسعك أن تؤسس قواعدك الخاصة بك، وبإمكانك أن تحطم كل القواعد التي تريد تحطيمها، والناس يفعلون ذلك دائماً، لكنني أظن أن عليك قبل ذلك أن تفهم القاعدة الأساسية.
القواعد تعطيك المعيار والمرجع الذي سيكون بإمكانك من خلالهما خلق شيء أصيل ومبتكر.
إذا أردت أن تخلق توتراً أو أن تجعل المتفرج متضايقاً مثلاً، فبوسعك أن تعمل ذلك بتعمد وقصد بالتضاد مع قواعد تركيب وتشكيل الصورة وجعل الشخصية مثلاً تنظر بإتجاه الجانب القصير لإطار الصورة وليس إلى الجانب الطويل منه. عمل شيء كهذا، والذي هو يخل بتوازن الصورة قليلاً، من الممكن أن يعطيك التوتر الذي تحتاجه. لكن، بوسعك تحقيق هذه الفكرة إذا كنت حقاً تعرف ماذا يعني إطار الصورة المتوازنة أولاً.
على أي حال، أظن أن في كل فيلم ثمة مقدار ما من التجريب. ففي فيلم (إنهم يقتلون الجياد....) مثلاً، إضطررت شخصياً أن أتعلم التزلج وإستخدام كاميرا تقفز من الطائرة بواسطة مظلة مرفوعة على خوذة غوص معدنية، من أجل تصوير بعض مشاهد الرقص لأنه لم تكن هناك حينها جهاز الستيديكام (****) كما اليوم. لقد كانت لدينا يومها أجهزة دوللي (عربات الشاريو) ضخمة تحتوي على عشرين مقبضاً لدفع مصور واحد فقط وهو جالس على مقعد. تصّور!. لقد كان ذلك شيئاً مضحكاً حقاً.
في فيلم "خارج أفريقيا" كنت واجهتُ يومها مشكلة معقدة بشأن الإضاءة، لإنني إكتشفت أن الضوء القريب من خط الأستواء كان كريه جداً ومزعج.. ضوء عمودي شريطي يحتوي على تضاد شنيع. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل التجارب التي أجريناها على الفيلم الخام الإعتيادي، إلا أن نتائجها كانت بشعة المنظر. لذا قررنا حينها اللجوء إلى التجريب، وعدنا إلى الماضي قليلاً، أعني أننا إستخدمنا فيلماً ذو حساسية سريعة جداً، هو (3000 ASA ) على ما أذكر. لقد إضطررنا إلى القيام بمحاولة تعريض الفيلم لقليل من الضوء إلى حد بعيد جداً بالطبع، أصبح فيه التضاد قليل جداً، وهو ما أضفى على الفيلم مظهراً شاعرياً رائقاً جداً. أما في الأيام التي كان الجو فيها معتماً فقد كنا نستخدم فيلماً ذو حساسية أكثر بطئاً، وكنا نعرّضه لكثير من الضوء، ومن ثم طبعه. وقد أعطانا ذلك للصورة مظهراً أنيقاً جداً.(*****)
الفيلم الآخر الذي أخضعته لعملية التجريب هو "الشِركة". لقد كان قراري بالنسبة لتصوير هذا الفيلم هو أنني لن أصّور منه لقطة ثابتة واحدة على الإطلاق.
في كل لقطة من كل مشهد كان المصور جون سَيل يضع يده دائماً على زر الزوم أو على رأس حامل الكاميرا (ترايبوت) وتحريك الكاميرا أقل مايمكن، وهو شيء لايمكن إدراكه حسياً بالطبع، أعني، شيء دقيق وضئيل إلى حد بعيد. وقد أنجزه جون بشكل لا يمكن ملاحظته فعلاً.
محصلة ذلك، كما أظن، أن ماقمنا به كان قد أسهم في خلق شعور بعدم الإستقرار وهو العنصر الذي كان ضرورياً لقصة الفيلم.
ينبغي أن يوظف التجريب لخدمة القصة فقط. أما إذا كنت تريد القيام بعملية التجريب فقط من أجل أن تظهر الأشياء جميلة، فأظن أن ذلك مضيعة للوقت.
(لاتدعْ المّمثل يُمّثل)
حين أقرأ مشهداً في سيناريو ما، ينتابني غالباً إحساس غريب يوحي لي أنني أسمع موسيقى ذلك المشهد في ذهني. وهذا بالطبع هو شكل من أشكال التجريد. لكن، حينما أكون في موقع التصوير، فإن تلك الموسيقى هي التي تساعدني حقاً ً في وضع الكاميرا في المكان المناسب.
حين أصور مشهداً ما، أحّب أن أصوره من كل جوانبه، أي، أن أشبعه بصرياً، لاسيما تلك المشاهد التي تتضمن حواراً، لسبب يتعلق بمشكلة تطابق الصوت والصورة.
يصدف أحياناً أن يكون لديّ مشهداً مباشراً وأعرف أنه لاتوجد سوى طريقة واحدة فقط لتصويره، إلا أنني مع ذلك، أحاول تصويره من كل الزوايا الممكنة، ولو أن ذلك شيء نادر جداً.
على أي حال، الشيء الأول الذي أبدأ به هو العمل مع الممثلين. حين يتواجد الممثلون في موقع التصوير فإن الشيء الأول الذي أقوم به هو إبعاد الآخرين عن الموقع، حتى وإن كانت قطة أو كلب.
الممثلون أناس حساسون جداً. أنا لايهمني ما سيقولونه الآخرون، إلا إنني، ومن خلال خبرتي، أعرف تماماً أن الممثل لايستطيع أن إعطائك كل ماتريد وثمة الكثير من العيون ترقبه. إذن، لابد من إستبعاد الآخرين وإخلاء الجو للممثل ليشغّل مخيلته بحرية كاملة.
الشيء الآخر هو إنني لا أعطي توجيهات إلى الممثل في حضور الممثلين الآخرين مطلقاًن، لأن العكس سيفضي حتماً إلى قيامه بإعادة تمثيل المشهد ثانية. الممثل يعرف بالطبع إنني أراقبه وأصدر حكمي بأدائه، كما ويعرف أيضاً أن الممثلين الآخرين يراقبونه ويصدرون أحكامهم بأدائه!. وهذه عملية حساسة وخاصة جداً.
الشيء الأول الذي أقوم به في الواقع هو كبح الممثل عن محاولة التمثيل. كنت أقول لهم مثلاً:
"لانريد تمثيل، ولانريد أداء. ما نريده فقط هو حفظ الحوار وتلاوته". هذا الشيء كان يحررهم من التوتر ويجعلهم أكثر إسترخاء.
ما أحاول القيام به في الواقع هو أن ألجم عملية التمثيل بشكل مؤقت لحين أن تنبثق عملية الأداء بتلقائية، وهي ستحدث ذاتياً حتماً. وبالفعل، بعد حين سيبدأ الممثل حالاً بالتململ فيما حوله، ثم يبتدأ بتلفظ كلمات حواره، وحينها ستحصل أنت المخرج على إحساس بما يريدون فعله.
أنا لاأقول لهم:" إجلس أنت هنا أو إذهب أنت إلى هناك". لإن ذلك سيجعلهم يشعرون بأنهم مبعدون عن سير العملية، وأنهم ليسوا جزءاً منها. من الممكن لي أن أبدأ بإعطائهم القليل من التوجيهات، ولكن، بشكل تدريجي.
لنفترض أن ثمة مشهدً ما يتضمن سبعة أخطاء مثلاً، فماذا أفعل؟ الأفضل، من وجهة نظري، هو أن أتحدث عن خطأ واحد فقط. وحالما يصّصح ذلك الخطأ، أستأنف حديثي عن الخطأ الثاني وهكذا.
من الضروري جداً أن تحل كل مشكلة لوحدها على حدة، فليس بمقدورك أن تطلب من الممثل أن يفكر بخمسة أشياء متباينة في وقت واحد. ينبغي عليك أن تكون صبوراً.
أنا لا أنفق الوقت الكثير في التدريبات (الپروڤات) لإنني أخشى دائماً من إحتمال أن يؤدي الممثل دوره بشكل جيد أثناء التدريبات ويفشل في تحقيق ذلك أثناء قيامنا بالتصوير الفعلي. لذا فحالما نصل إلى موقع التصوير، أبعث بالممثلين إلى غرفة المكياج والملابس. بعدها أذهب لأراهم هناك كل على حدة لأتحدث معهم أكثر وأكثر عن المشهد المطلوب تصويره. بهذا الأسلوب يكون كل ممثل لديه إحساس مختلف بما سيجلبه وإياه إلى موقع التصوير. وحالما يكونوا في موقع التصوير، أسعى دائماً أن أجعل الكاميرا تشتغل، لإن الكاميرا تجعل الممثلين متوترين قليلاً، وتتصيدهم وهم خارج حدود المراقبة قليلاً، وهذه العملية تفضي إلى إعطاء نتائج أفضل.
(الممثل ليس معنيّ بالجانب الذهني)
ثمة الكثير من الحقائق بشأن توجيه المخرج للممثلين. البعض من المخرجين يفهم تلك الحقائق بشكل حدسي، والبعض الآخر لا. أعتقد أن أكثر الأخطاء التي يقترفها المخرج شيوعاً هي أن يعطي الكثير من التوجيهات.
أنت كمخرج، حينما تُعطى مسؤولية ضخمة كهذه فمن السهل أن ينتابك إحساس أنك إذا لم تستأنف إعطاء إرشاداتك للناس عما يجب عليهم أن يفعلوه، فهذا معناه إنك بذلك لم تقم بواجبك بالشكل الصحيح. وهذه هي الحماقة بذاتها!.
إذا كان كل شيء يجري على مايرام، فما عليك والحالة هذه إلا أن تغلق فمك وتشعر بالسعادة.
كلما زادت خبرتك في هذا الميدان كلما أدركت كم هو قليل ما يتطلبه عمل كهذا.
إنه يتطلب مزيداً من التواضع والبساطة، مزيداً من الإقتصاد، وأخيراً وبدرجة أكبر، يتطلب منك أسلوباً مؤثراً وفعالاً لعمل كل ذلك.
هذا هو جوهر عمل المخرج، وليس أن يقول للناس ماذا عليهم أن يفعلوا. الشيء الآخر المهم كما أظن، هو أن يعرف المخرج إن التمثيل غير معّني بالجانب الذهني. الممثل ليس بحاجة لئن يفهم بالطريقة التقليدية مايفعل. إن ماعليه هو القيام بذلك الفعل فقط لاغير. ولذا ينبغي التمييز بين الإخراج الذي يُنتج سلوكاً والإخراج الذي ينتج إدراكاً ذهنياً ، وهذا الأخير بالطبع لاجدوى منه على الأطلاق.
إن معظم الخرجين الشباب يتحدثون لساعات وساعات عن مغزى المشهد، لكنهم لايخصصون وقتاً للحديث عن إخراج السلوك. وهذا ما لايجعل من الممثل أن يكون أكثر تماساً بالمشهد.
الممثل هو بحاجة أن يفهم كيف يمكنه أن يحيا بشكل صادق وحقيقي في المكان التخييلي للأحداث. لأن كل التمثيل في النهاية يأتي من التوق إلى شيء ما. إن ما "تتوق" إليه وليس بما "تفكر" به، هو الدافع الذي يجعلك تقوم بعمل شيء ما.
(العمل مع القصة هو التحدي الحقيقي)
حين قمت بتدريس الإخراج في معهد ساندانس لبعض الوقت كان معظم المخرجين الشباب الذي قابلتهم هناك خائفين من الممثلين. ففكرة توجيه الممثلين كانت بالنسبة لهم شيء مرعب. لذا فالنصيحة التي قدمتها لهم يومها، والتي أود إعطائها لجميع المخرجين المبتدئين، هي أن يذهبوا لمشاهدة طلبة التمثيل في أحد المعاهد، أو الأفضل أن يدرسوا فن التمثيل ليتعلموا شيئاً ولو قليل عن هذا الفن، لإن هذه هي الطريقة المثلى لمعرفة مايحتاجه ومالايحتاجه الممثل للقيام بمهمته.
الشيء الآخر الذي أحب أن أقوله للمخرجين المبتدئين، هو أن اللجوء إلى التقنية يتم فقط حين لاتحدث الأشياء من تلقاء نفسها. وإذا ما حدثت الأشياء بواعز من ذاتها، فماعليك في هذه الحال إلا أن تلتزم الصمت والهدوء والإقرار بأنك شخص محظوظ.
إذا كان لديك سيناريو محكم ولديك مصور بارع وتعرف كيفية إدارة فيلمك بشكل صائب، فإنك حالما تبدأ التدريبات في موقع التصوير، ستجد أن الأشياء تتحقق بشكل رائع، بعدها ما عليك سوى أن تهدأ وتلتزم الصمت. لاتحاول العبث بهذا الهدوء والصمت. إن تعّلم الهدوء مهم مثل تعّلّم القول.
أنا أفهم بالطبع بإمكانية وجود رغبة للتحدي. إلا أن العمل مع القصة، وليس مع الجانب التقني، هو التحدي الحقيقي.
حين بدأت العمل على فيلم "أيام كوندور الثلاث" مثلاً، كنت مشدوداً فقط بقصة الحب التي تجري بين روبرت ريدفورد وفاي دوناي. أما البقية فلم تكن سوى خلفية بالنسبة لي.
إن التحدي في قصة الفيلم تلك هو جعل المتفرج يؤمن أن رجلاً وإمرأة يلتقيان في ظروف دراماتيكية كهذه (ريدفورد يختطفها هنا بالطبع) يمكن أن تنتهي إلى علاقة حب خلال يومين في الأقل. أنا أسمي هذه الحالة بـ (تحدّي ريتشارد الثالث) لإن المشهد الشهير في مسرحية شكسبير "ريتشارد الثالث" يتضمن حالة رجل يغوي زوجة أحد أعدائه بعد ساعات من قتله فقط. أظن أن إمكانية تحقيق شيء كهذا هنا هو شيء مدهش ومذهل حقاً. الموضوع ليس سهلاً بالطبع، ويحتمل الكثير من فرص الفشل قياساً بفرص النجاح. إلا أنك لو مارست هذه اللعبة بحذر، أستطيع أن أؤكد لك أنك سوف تحقق شيئاً هاماً ومشوقاً.
***
(عرض موجز وسريع لأفلام سدني پولاك)
"في كل مرة أخرج فيها فيلماً أتسائل مع نفسي، لماذا فعلت ذلك ثانية!؟ إنه شيء يشبه أن تضرب جبينك بمطرقة".
پولاك
"الخيط الرفيع" فيلم صور بالأسود والأبيض لعب فيه الممثل سدني بواتيه دور طالب متطوع في مركز لإسعاف المنتحرين، مهمته الإجابة على مكالمة هاتفية طويلة مع إمرأة هي على وشك الإنتحار (الممثلة آنا بانكروفت).
الفيلم هو دراما تشويقية معمولة بقالب هيتشكوكي يذكّرنا كثيراً بفيلم "الحبل"، أما ثيمته فهي مبنية على حادثة إنتحار حقيقية نشرت يومها في مجلة تايمز. كتب السيناريو ستيرلغ سيليفانت وپولاك معاً.
ميزة هذا الفيلم أنه أنتج بميزانية متواضعة جداً وصّور في مكان واحد تقريباً وهو مركز الوقاية من الإنتحار. رشحّ لجائزة الأوسكار كأفضل إخراج، وهذا ماأعطى پولاك دفعة معنوية قوية ليُخرج بعدها ثلاثة أفلام أعتبرت ولاتزال أهم إنجاز سينمائي في ستينات القرن الماضي، وهي:
"المِلكية المدانة" 1966، وهو فيلم ميلودرامي يتضمن قصة حب رومانتيكية أقتبس عن مسرحية بفصل واحد لتنيسي وليمز. شارك في كتابة سيناريو الفيلم فرانسيس فورد كوبولا، ولعب دور البطولة كلاً من روبرت ريدفورد وناتالي وود وتشارلسس برونسون.
تجري أحداث الفيلم على خلفية كابوس الأزمة الأقتصادية التي عصفت بأمريكا آنذاك، في فندق تديره هازل ستار (الممثلة كيتي ريد) هي وإبنتيها يقيم فيه عمال السكك. ألڤا، البنت الكبرى (الممثلة ناتالي وود) تلعب دور الغانية، تتلخص مهمتها في تسلية الرجال المقيمين في هذا الفندق. ألڤا فتاة تتوق إلى الهرب من مدينتها الصغيرة التي تضيق بها، إلى عالم أكثر رحابة وحرية، كما وتحلم أيضاً في الخلاص من هيمنة والدتها التي تستثمر جسدها من أجل كسب المال.
قدوم موظف سكك الحديد الشاب الوسيم أومين ليكيت (روبرت ريد فورد) وإقامته في الفندق هو وحده من سيفتح لها كوة صغيرة من الضوء في تلك العتمة. فحالما يصل يرتبط الإثنان بعلاقة عشق ملغزة، إلا أن تلك العلاقة سرعان ماتضمحل وتتلاشى شأن كل علاقات الحب الخائبة في أفلام پولاك بسبب وجود شرخ وتعارض بين رؤى طرفي العلاقة تلك. فروبرت ريد فورد رغم جاذبيته ووسامته يلعب دور موظف سكك حديد واقعي وجاف وصارم ليس ثمة حيز في جوانحه للحلم، فيما تلعب ناتالي وود دور ألڤا، الشخصية الشاعرية الحالمة بعالم ينأى كثيراً عن الواقع. موتها المفاجىء بسبب مرض ذات الرئة لايضع حداً لتلك العلاقة فحسب إنما يصبح بمثابة مجاز لحالة الإختناق من الوجود الذي تعيشه. الفيلم يسرد الأحداث فيما بعد بطريقة التداعي هذه المرة من خلال عيون شقيقتها الصغيرة.
أما الثاني فهو "صائدوا فروات الرأس" 1968، وهو فيلم كوميدي معمول بصيغة أفلام الغرب الأمريكي (رعاة البقر)، تجري أحداثه أثناء الحرب الأهلية وتتمحور فكرته حول النزاع بين الهنود الحمر وعصابات تجارة الفرو. يعالج الفيلم بحساسية سياسية، موضوعة التمييز العنصري والدعوة إلى المساواة الراديكالية في ستينات القرن الماضي من جانب، ومن جانب آخر، يتغنى بسخاء الطبيعة وسحرها مجسد في الصحراء.
شخصية جو باس الذي لعبه برت لانكستر هنا هو ليس بشخصية جيرميا جونسون المثقف الهيبي الذي لعبه روبرت ريد فورد في فيلم جيرميا جونسون، إلا أنه يمكن رؤية الكثير من التماهيات الشخصية بين الأثنين على صعيد الشخصية والممثل.
الفيلم الثالث "سجن القلعة" 1969 وهو دراما مضادة للحرب، مقتبس من رواية للكاتب وليم إستليك تحمل نفس العنوان. تجري أحداث هذا الفيلم أثناء الحرب العالمية الثانية في منطقة محاذية للحدود الفرنسية، مابين فصيل أمريكي يقوده برت لانكستر وآخر ألماني حول قلعة بلجيكية ذات طابع قرة وسطي من أجل الإحتفاظ بكنوزها.
تتوج خاتمة الفيلم بخيبة كلا المعسكرين الأمريكي والأوربي، عاكسة رؤية پولاك السياسية في عدم جدوى الحروب، مذكرّة بوحشية الحرب الأمريكية وعبثها ضد فيتنام.
صّور الفيلم في يوغسلافيا وأشرف على تصويره المصور الشهير هنري ديكوي، أما موسيقاه فقد كانت من تأليف مايكل ليغراند.
"إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" الفيلم الطويل الأول لپولاك الذي أنجزه عام 1969، وهو مقتبس من قصة لهوراس ماكوي، يتحدث فيه عن الموت والحب في أعوام الأزمة الأقتصادية ومدى الخراب الذي حل بالولايات المتحدة آنذاك، وتتمحور حبكته حول مصير مجموعة من المتسكعين والخائبين والعاطلين عن العمل يُجندّون لماراثون رقص شاق ومعّذِب لقاء جائزة مالية. لعب بطولته كل من جين فوندا و مايكل سارازين، وقد حقق نجاحاً فنياً وتجارياً غير متوقع ورشح لجائزة الأوسكار كأفضل إخراج، مادفع بالمخرج هذه المرة دفعة أقوى جعلته يقف في الصفوف الأمامية لأهم مخرجي هوليوود آنذاك.
"جيريميا جونسون"، 1972 ، فيلم شاعري مقتبس من رواية فاردس فيشر (الرجل الجبلي) و قصة أخرى بعنوان (كروكيللر) للكاتبين ريموند دبليو ثروب و روبرت بانكر. يرينا هذا الشريط التفاوت الشاسع بين صخب المدن وشاعرية الطبيعة في الريف، ويكشف عن الإساءة التي لحقت بالهنود الحمر على يد الأمريكان.
ميزة هذا الفيلم خلوّه من الحوارات، وإعتماده الأغنية كمّعلق وراوي للأحداث. تجري الأحداث في القرن التاسع عشر ما بعد الحرب الأهلية، ويتمركز حول شخصية البطل المنعزل المتوحد جيرميا جونسون الذي يضجر من حضارة المدينة وخراب الحرب ويقرر العيش وحيداً في القفار، هناك حيث سيقيم علاقة خاصة مع الطبيعة. إلا أنه يفشل في العثور على تلك الطمأنينة التي ينشدها، حيث يصبح هدفاً للجيش الأمريكي والهنود الحمرعلى حد سواء. وهكذا يشد رحاله في النهاية إلى لا أين. الفيلم من بطولة روبرت ريد فورد و ويل جير. أما المصور فهو أندريه كالغان.
"الحياة التي عشناها" 1973، فيلم يعالج كابوس الحقبة المكارثية خلال الأعوام (1930 ـ 1950) وتعرض المثقفين، لاسيما السينمائيين منهم إلى الإعتقالات أو القتل، من خلال قصة حب رومانتيكية طرفاها الكاتب هابل (روبرت ريد فورد) والناشطة الماركسية اليهودية كيتي (الممثلة برباره ستريساند). كتب السيناريو آرثر لورينتس، ويعتبر هذا الفيلم واحد من أجمل أفلام قصص الحب التي أخرجها پولاك.
" ياكوزا" 1975، فيلم تدور أحداثه في اليابان، يحاكي أفلام رعاة البقر، يلعب فيه روبرت ميتشام دور (هاري كيلمر) المحقق الأمريكي المتقاعد الذي يسافر إلى اليابان لإنقاذ إبنة أحد أصدقائه القدامى التي إختطفتها عصابة ياكوزا كرهينة.
جورج تانر (الممثل بريان كيث) هو صديق قديم لهاري كليمر حيث خدما معاً في جبهة الحرب في اليابان، هو شخصية إنتهازية تعمل سراً مع طرفين متعارضين هما الولايات المتحدة واليابان. فهو من جهة يظهر ولائه الزائف لبلاده ومن جهة أخرى يقوم ببيع الأسلحة سراً لليابانيين عن طريق وسيط هو تونو رئيس عصابة مافيا تدعى ياكوزا. يتم إختطاف إبنته كرهينة حين يفشل في إحدى تلك الصفقات من إيصال الأسلحة لعصابة ياكوزا، مهددين إياه بقتلها مالم يجلب الأسلحة.
إنه فيلم يحكي عن ثمن الشرف على الطريقتين الأمريكية واليابانية معاً. ويتحدث أيضاً عن كيفية مواجهة الناس لمسؤولياتهم.
ربما هو الفيلم الأمريكي الأول الذي إستطاع أن يمزج صورة اليابان القديمة والحديثة معاً في دراما مفعمة بالعنف تتضمن حدثاً معقداً بإحكام.
كتب سيناريو الفيلم روبرت تاوني عن قصة للكاتبين باول شريدر وروبرت تاوني.
"أيام كوندور الثلاث" 1975، فيلم مقتبس من رواية بعنوان (أيام كوندور الستة) لجيمس گرادي، تتحدث عن مجموعة مافيا تعمل داخل وكالة المخابرات الأمريكية تحاول تهريب الكوكايين. الرواية إتخذت لها مساراً آخر على يد السيناريست لورينزو سيمبل وپولاك، فقد عولجت بطريقة جريئة أصبح فيها الفيلم بمثابة إدانة مكشوفة جريئة ومباشرة لوكالة المخابرلت الأمريكية إبان فضيحة ووترغيت.
الخط الأول لثيمة الفيلم يتابع مصير شخص يعمل في وكالة المخابرات يعود لمكتبه بعد تناوله وجبة الغداء ليجد أن زملاءه قد قضوا جميعاً!. وحين يحاول الإستفسار من مديره المسؤول عما حصل يصبح هو الآخر مطارداً من قبل الوكالة وشرطتها السرية.
أيام كوندور الثلاث فيلم أشبه بلعبة ذهنية بين تيرنر (روبرت ريدفورد) ومافيات وكالة المخابرات. سؤال الفيلم هو: هل بإمكان شخص مثل تيرنر عدم الإستسلام لكي لايصبح سّناً في عجلة السلطة؟.
يجيب پولاك أن:"بإمكان إنسان واحد جريء وحقيقي أن يكتشف الحقيقة" إلا إنه يتسائل في نفس الوقت قائلاً:" ولكن هل بوسع تلك الحقيقة أن تساعد هذا الإنسان على البقاء حياً!؟".
أما الخط الثاني للثيمة فهو يشتغل على قصة حب تجري بشكل متوازي مع الخط الأول، فلأجل أن يستعيد بطله الثقة التي فقدها بالآخرين، يجد نوعاً من العزاء في شخصية كاثي (الممثلة فاي داناواي) التي يتخفى في شقتها هرباً من الشرطة السرية، وهي شخصية شكوكية ولاتثق بأحد هي الأخرى. صحيح أنه يستعيد الثقة بالآخرين عن طريق علاقة حب ساحرة من جانب، ومشوبة بمسحة ماسوشية سادية من جانب آخر.
"حقل الخوف" 1977، فيلم لعب بطولته آل پاتشينو دور سائق سيارة سباق يقع في غرام إمرأة مصابة بالسرطان، وبسبب تعاطيه المخدرات يصاب هو الآخر بمرض خطير. كتب سيناريو الفيلم آلفنت سارجنت ويعتبر هذا الفيلم واحداً من أضعف أفلام پولاك وربما أسوأ أدوار آل باتشينو.
"الفارس الكهربائي" 1979 هو فيلم كوميدي رومانتيكي يتحدث عن بطل مباراة الرّوديو "الماشية" سوني ستيلي (روبرت ريدفورد) شخصية راعي البقر المنعزل الذي يعثر على دلالة لحياته الحقيقية فقط بعد تقاعده من المهنة.
قصة الفيلم تشتغل على ثلاث مستويات، الأول، رحلة إنسان لإكتشاف ذاته، والثاني، رد إعتبار للحصان، والثالث، فقدان بلد لروحه بإسم التكنولوجيا والربح التجاري.
الفيلم يروي لنا بشكل متوازٍ مصير حصان وإنسان. فالإثنان كانا أبطال مباراة الروديو في يوم ما وحين يتقاعدا يعثر الفرس على حريته ويتحرر الفارس من ماضيه.
الفيلم يمكن أن يكون أيضاً مجازاً لتلاشي الحلم الأمريكي ممثلاً بشخصية الفارس سوني الذي صار يرتدي بدلة كهربائية هي ترميز للمتاجرة بالقيم الغربية وتحديثها الزائف.
لعبت الممثلة جين فوندا دور البطولة في هذا الفيلم إلى جانب روبرت ريدفورد.
أما الفيلم الشيق "غياب الحقد" الذي أخرجه عام 1981، فهو قصة حب تجري بين صحفية طموحة تدعى ميغن (الممثلة سالي فيلد) ورجل الأعمال مايكل (بول نيومان) . في هذا الفيلم يحاول پولاك أن يجري إختباراً قاسياً لأخلاقية الصحافة من خلال قيام الصحفية ميغن بنشر تقرير زائف تكشف فيه عن النزاع القائم بين المؤسسات المالية وعصابات المافيا. الثيمة التهكمية في هذا الفيلم تتمحور في إكتشاف الصحفية أثناء تحقيقها في جريمة قتل أحد مفرّغي المراكب، أن أحد المتورطين فيها هو رجل الأعمال مايكل، مايجعلها تصبح معنية أكثر وبعمق في البحث والتحقيق لإثبات براءته.
فيلم توتسي" 1982، هو علامة بارزة في تأريخ كوميديا ت القرن العشرين. كتب السيناريو لاري گيلبرت وهو من بطولة دستن هوفمان، الذي لعب فيه دورممثل نيويوركي عاطل عن العمل يضطر للعمل كطباخ حينا ومدرب دراما حينا آخر، وفي الأخِر ومن أجل الحصول على فرصة عمل في التلفزيون يضطر إلى التنكر في هيئة إمرأة ممثلة تدعى دوروثي مايكل.
صحيح أن الثيمة تحمل بعض ملامح الهزلية الكلاسية، إلا أنها تبتعد كثيرا عن الضحك المجاني. لعبت الممثلة جيسيكا لانغ وپولاك نفسه إلى جانب هوفمان.
"خارج أفريقيا" 1985، فيلم شاعري مبني على مذكرات الكاتبة الروائية الدنماركية إساك دينيسن، تلك التي دونتها في كينيا في مستهل القرن الماضي. إنه يتحدث عن علاقة الحب بين الصياد الإنجليزي المغامر دينيس فينيتش هاتون (روبرت ريد فورد) وصاحبة مزرعة البن التي جسدتها ميريل ستريب.
فاز الفيلم بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم، وحصل پولاك على الجائزة إخراجاً وإنتاجاً معاً. وقد وصلت ميزانية الفيلم 30 مليون دولار تقريباً.
"هاڤانا" 1990، فيلم يحاكي كثيراً فيلم (كازبلانكا) لمخرجه مايكل كيرتز، وهوالفيلم الذي كان پولاك معجباً به على الدوام. يتحدث الفيلم عن شخصية جاك (روبرت ريد فورد) المقامر الشكوكي الذي يتورط في علاقة حب مع روبيرتا (الممثلة لينا آولين) زوجة أحد الثوار الكوبيين زمن باتيستا.
يذكرنا هذا الفيلم بنمط ثيمات الحب في الأفلام الفرنسية فترة الستينات التي تعالج مثلث العلاقة بين الزوج والزوجة والعشيق.
إختلف النقاد بشأن هذا الفيلم، فيما إعتبره پولاك نفسه بمثابة كبوة في مسيرته السينمائية.
"الشركة" 1993، فيلم مقتبس من رواية للكاتب الأمريكي جون گريشام تحمل ذات العنوان، وهي الرواية الأكثر مبيعاً لعام 1991.
لقد أضاف المخرج وثلاثي السيناريو ديفيد ريب وروبرت تاوني وديفيد رايفيل بعض التراكيب الدرامية والأخلاقية لهذه الحكاية.
يتحدث هذا الفيلم عن محامي شاب بارع يعمل في شركة حقوقية مهيبة، الشخصية التي يلعبها توم كروز، والذي يجد نفسه فجأة مقيد برباط ثقيل بجريمة مّنظمة. حين يحاول إنقاذ رأسه من هذا الفخ يكتشف الحقيقة المرعبة وهي أن كل من يحاول مغادرة الشِركة يكون مصيره الموت.
الفيلم حقق أرباحاً تقدر بمئة وخمسين مليون دولار في شباك التذاكر.
"سابرينا" 1995، كوميديا رومانتيكية، مقتبس من فيلم قديم بنفس العنوان أنتج في الخمسينات أخرجه بيلي وليلد، حاول پولاك إعادة إخراجه برؤية جديدة، متناولاً علاقة حب بين فتاة وشقيقين.
"القلوب العشوائية" 1999، فيلم رومانتيكي ذو طابع ميلودرامي، بطولة هاريسون فورد وكريستين سكوت توماس.
يتـألف هذا الفيلم من خطين متوازيين، الأول يُظهر لنا تحطم طائرة متوجهة إلى ميامي كانت تقل زوجة ضابط شرطة يدعى ڤادن برويكن (الممثل هاريسون فورد). حين يذهب بروكين إلى مقر عمل زوجته للإستفسار عن الحادث يكتشف أن مديرها ليس له علم بهذه الرحلة، عندئذ يقوم في البحث عن إسمها في جميع المطارات ضمن قوائم المسافرين لكنه لايعثر على الإسم.
أما الخط الثاني للفيلم فهو يتماهى والخط الأول حيث يرينا شخصية كاي تشاندلر التي يخبرها زوجها أنه مسافر في رحلة عمل إلى ميامي، وحال سماعها بسقوط الطائرة تهرع لمعرفة مصير زوجها.
يلتقي ضابط الشرطة وتشاندلر بالصدفة وكل منهما يبحث عن فقيده. مالايعرفه الإثنان، هو أن قرينيهما على علاقة حب سرية. وهكذا تتشيد آلياً علاقة حب بينهما هما أيضاً.
"المترجمة" 2005 ، فيلمه الروائي الأخير، وهو ميلودراما تدور أحداثها في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، هناك حيث تجري محاولة لإغتيال أحد الشخصيات السياسية الأفريقية داخل المبنى.
الممثلة نيكول كيدمان التي لعبت دور المترجمة في الفيلم تحدثت عن عملها مع پولاك بعد رحيله قائلة:
"كان پولاك شخصاً جميلاً، شهماً، سخياً، ذكياً وبارعاً، ممثلاً مدهشاً وفناناً ذو ذائقة فريدة. لقد كان يوجهني ويقودني فنياً وشخصياً، ليس كمخرج ومنتج فحسب، إنما كناصح ومعّلم وصديق وفيّ".
"سكيتشات فرانك جيري" 2005، الفيلم الوثائقي الوحيد لپولاك وهو يتناول حياة ونتاج صديقه المعماري الشهير فرانك جيري، الفنان الذي إشتهر بتصميمه قاعة والت ديزني للإحتفالات في لوس أنجلوس ومتحف غاغينيم في أسبانيا، والذي حوّل تصميم البنايات إلى أعمال فانتازية بطريقته الخاصة ليصبح أشهر شخصية في الثقافة الأمريكية. يقول پولاك:
"لقد كان لدي فضول حقاً أن أتعلم شيئاً ما من هذا الفيلم. إعني بالضبط، لماذا كنت أريد فهم هذا الرجل بالذات؟. إنه إنسان آخر لكنه متكامل. أردت أن أفهمه لأن ذلك سيساعدني في إستجلاء نفسي".
يُوصف هذا الفيلم بأنه فيلم صادر من القلب. وهو بورتريت تأملي لفنان، يقول الكثير عن جيري، إلا أنه في ذات الوقت يحكي عن پولاك نفسه. فپولاك يظهر في هذا الفيلم ليس مخرجاً فحسب إنما فنان يجلس إلى جوار فنان منتقداً أخطاءه بتواضع كمخرج وكأنسان.
في شهر يونيو 2007 نشرت "غارديان بلوغ" مقالة بعنوان (من توتسي إلى جيري) يقول فيها پولاك:
"لم أفكر يوما بإعادة إبتكار الفن السينمائي مطلقاً، وليس لدي الجرأة أن أحاول في مضمار الإخراج السينمائي ماحاوله جيري في ميدان المعمار. لقد قوّض جيري جميع القواعد حقاً، وأنا أقل شجاعة وقدرة من أن أعمل مأثرة كهذه".
من الممكن أن پولاك لم يفعل ذلك وربما لم يستطع أحداً غيره أن يفعل، لكنه كان مخرجاً سينمائياً خلاقاً وشخصية رائعة متقدة الذهن، والسينما بدونه تبدو بائسة حقا ً.
"إعادة فرز" 2008، الفيلم التلفزيوني الذي لم يمهل المرض پولاك على إنجازه. إنه دراما سياسية إنتقادية تتحدث عن إلتباسات الإنتخابات الرئاسية الأمريكية في ولاية فلوريدا (بين غور وبوش الإبن) عام 2002 والتي شهدت مأزقاً سياسياً دعى إلى إعادة فرز الأصوات آنذاك. إنه تحليل عميق وجريء لتركيب الشخصية الأمريكية بكبرياءها وبشاعتها.
(ع.ك)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*)
MOVIEMAKERS' MASTER CLASS:
PRIVATE LESSONS FROM THE WORLD'S FOREMOST DIRECTORS
الكتاب صادر باللغة الأنكليزية عن دار النشر FABER AND FABER 2002 ، وهو عبارة عن مجموعة من اللقاءات الصحفية كان أجراها الناقد والسيناريست والمخرج السينمائي الفرنسي لورينت تيراد في أوقات وأماكن مختلفة مع عشرين مخرجاً سينمائياً عالمياً ينتمون إلى أجيال ومدارس مختلفة. غّطى الكتاب فترة نصف قرن تقريباً، مبتدئاً منذ أواسط ستينات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي.
(**) برت لانكستر هو من إقترح ذلك.(راجع القسم الثاني من هذا الموضوع)
(***) الإطار ـ الصورة frame
هي الصورة الواحدة الثابتة (إطار) من سلسلة الصور الثابتة المتتابعة على الشريط السينمائي، والتي توحي بالحركة فقط عند عرضها على الشاشة بفضل خاصية العين العروفة بإسم إستمرارية الرؤية. ومن الجدير بالذكر أن كل قدم من الفيلم مقاس 35 مللي يحتوي على 16 صورة أو (إطار) ويمر هذا الفيلم خلال آلة العرض بمعدل 90 قدماً في الدقية، أي بمعدل 24 صورة (إطار) في الثانية الواحدة. ويعرف الإطار أو الصورة في اللغة الدارجة بإسم (الكادر) المأخوذة أصلاً من الفرنسية.
المصدر: معجم الفن السينمائي: أحمد مرسي و مجدي وهبة. وزارة الثقافة والإعلام. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1973
(****) Steadicam
ستيديكام، آلة إبتكرت في السبعينات من القرن الماضي كحل وسط رائع بين الكاميرة المحركة المحمولة باليد وبين حركات الدوللي (الشاريو)، وبفضل النظام المعقد للعّدة كالنوابض والذراع الآلي ومونيتر الفديو، سمح جهاز ستيديكام هذا للمصور أن يركض ويقفز ويتسلق السلالم إلخ... وهي الأشياء التي لم يكن بوسع الدوللي (الشاريو) الضخم القيام بها بدون إحداث إهتزاز بحركة الكاميرا المحمولة يدوياً.
(*****) المقصود بها سرعة وبطء حساسية الفيلم الخام. فكلما كانت كمية الضوء كبيرة تكون الحاجة إلى فيلم خام ذي حساسية أبطىء وتكون نوعية الصورة عادة أكثر حدة. أما الفلم سريع الحساسية فهو يستخدم عادة مع الحالات التي تكون فيها الإضاءة قليلة إلا أنها تنتج صورة فقيرة النوعية. كما هو الحال مع الإستجابات الكيميائية، يمكن للتجريب عادة أن يعطي نتائج مدهشة، كما هو في مثال سدني پولاك هنا.
***
علي كامل
مخرج سينمائي وكاتب
لندن
alikamel50@yahoo.co.uk