شيء من القسوة و كثير من الحب

2014-11-17
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f0a42ded-4a4f-4e17-a4cd-2dc6574cce2a.jpeg
 لطالما بحثت عن قبس النور الذي يطهر الروح من الصدأ...
أقول ذلك و تنهال على فكري حياة كاملة من الأحداث و الصور و الانطباعات و ذكريات العلقم و العسل. ما  جدوى التذكر و الإبحار في محيط الماضي ؟ ما أهمية أن يكون بين الماضي و الحاضر شبر أو أقل، على الأقل في تصوري الشخصي ؟ لم أفكر و أكتب و أعبر ؟ هل الكتابة خلاص و راحة و طهارة و صلاة في محراب الذات و توحد مع روح الكون ؟

دعونا من كل هذا الكلام الفلسفي... 

بلغت هذا العام سن التقاعد، صرت ستينيا،  و غادرت الوظيفة العمومية بعد خدمة استمرت أزيد من 35 سنة في قطاع التعليم...

و نظرت بعين المتأمل إلى كل السنوات التي أفنيتها في خدمة الوطن، فانتبهت إلى أني أديت عملي دواما على أحسن وجه، و كانت تحذوني رغبة مستمرة إلى أن أعطي أفضل ما لدي لجيوش المتعلمين الذين درستهم على مدار أزيد من ثلاثة عقود.

لم أكن كاملا، و كانت لدي أخطائي كأي إنسان، فمن الكامل غير المولى المنزه عن النقص ؟

لطالما بحثت عن قبس النور الذي يطهر الروح من الصدأ...

أقول ذلك و بصري يجول بين مئات الكتب التي تزدان بها مكتبتي. هذه الكتب حصيلة سنين من القراءة و طلب العلم و عشق التعلم و الرغبة المجنونة في الأفضل. منذ بدأت القراءة في سن مبكرة بتشجيع من والدي الذي كان يحترف القضاء، كف الملل عن أن يكون هو الملل، و صارت أيامي اغترافا لا ينقطع من عيون لا تنضب.

لقد تبدل منطق الزمن فما عاد هناك نهار ولا ليل ولا شمس ولا نجوم ولا رقود و لا قيام. كنت أنا الكتب و كانت الكتب أنا. و ساعدتي إدماني على المطالعة على مقاومة الفراغ، و تجنب القيل و القال، و التغلب على القهر النفسي، و رداءة المجتمع، و ركاكة كثير من العقليات.

و أول أمس قبل أن أنتهي من كتابة هذه السطور، دار بيني و بين ابني الأصغر هذا الحوار

- عندما أقارن بيني و بين أصدقائي في الثانوية، ألاحظ يا أبي، أنك كنت قاسيا جدا في تربيتنا...

ارتسمت على وجهي ابتسامة واسعة، ألقيت على خليل نظرة كلها حنان و سألته

- هل ينقصك شيء أيها العفريت ؟  هل قصرت يوما في إطعامك و تطبيبك و ملابسك، و الإنفاق على دراستك و أسفارك و هواياتك ؟
 و كان الجواب أن تورد وجه خليل من الخجل و أن خفض عينيه فإذا بهما تلامسان الأرض.

-  بلى يا أبي، لقد وفرت لي و لإخوتي أجمعين كل شيء كنا نحتاجه.

- فعلت، و كان و ما زال ذلك واجبي حتى أفارق الحياة. 

- أطال الله عمرك يا أبي...

" لطالما بحثت عن قبس النور الذي يطهر الروح من الصدأ. بحثت عن قبس النور بالإخلاص، و الكفاح، و السهر على تلقين الخلق الطيب، و الإرشاد إلى الطريق القويم...  صحيح أني يا خليل كنت قاسيا بعض الشيء في تربيتكم، و أني كنت أحيانا في أوامري و نواهي مثل العسكري، و لكني يا بني أنتمي لجيل قديم غير جيلكم فافهموني ، إن حرصي على الأخلاق و الانضباط و الحكمة كان مرفوقا ببعض الترهيب، و لكن أيضا بمقدار هائل من العطف و الحب. فهل حرمت أنت أو إخوتك يوما واحدا من الحب ؟؟؟ "


أديب و أستاذ جامعي

amrimahdi@yahoo.fr 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved