عسيب

2016-11-21
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/90886a86-89ac-4e65-885f-9da10109cd00.jpeg
فرنسا :
لم افكر من قبل في السفر الى كندا . كانت اوربا وجهتي المستحبة، وفرنسا في المقام الاول . لم انس ايام الدراسة بها وغدوي ورواحي من دار المغرب في شارع المدارس الى السوربون الجديدة او القديمة . لم انس التوتر في الصلات السياسية لذلك العهد بين جهات في المجتمع المغربي، ولم انس ثورة ماي التي حضرتها من اولها الى آخرها وتعلمت منها ومن الحياة السياسية الفرنسية ما دمر البضاعة الثقافية التقليدية التي كنت احملها قبل حلولي بفرنسا . كنت شابا ولئن بقيت تلك الذكريات تربط رسنها في خيالي فلان للشباب لذة لا تعادلها لذة، لا خوف ولا ذعر وجرأة وحسن نية، ولان فرنسا هي البلد ذو الدولة التي كان جيشها يجوس خلال مدينة فاس وانا طفل صغير سنة 1953 وما بعدها . يجوس حينما كنت مصعدا على طريق الطالعة الصغرى بفاس، وكانت فرقة من الليجيون نازلة مدججة بالسلاح لارهاب الناس، ويجوس حينما كنت اشاهد مظاهرات تمر بحي البليدة ثم أفر بنفسي بعد ان جعجع الرصاص واصاب موقعا فارقته ويجوس ويجوس .
ان  تجربة الانسان الدوني التي ادركت بعد ذلك العهد انها كانت عامة للمغاربة، لم تفارقني خلال اقامتي الشبابية في باريز الا بعد امد . جاهدت نفسي طردا لذلك الاحساس وكنت كل مرة ادفن الذكريات لاستطيع المواصلة . لكن كيف استطيع دفن ذكرى ذهابي مع امي واقاربي الى السجن الفرنسي لنزور والدي المعتقل عند الفرنسيين ؟ وكيف انسى التعاليم الابوية التي كانت توصي صراحة او كناية بالثآر من الاعداء لغة واشخاصا وثقافة . استطعت في النهاية ان انسى حين ادركت ان الفرنسيين الذين نكّلوا بنا سنة 53، ليسوا هم الفرنسيين الذين كنت اعايشهم سنة 67 . ونسيت نهائيا كل حقد وكل بغض راسب في كهوف الفؤاد، حين اجلت عيني في الفن الفرنسي والفخامة العمرانية وفي القوانين والاعراف المنطقية التي تسري على الكبير والصغير، وحين علمت بالمراقبة والمطالعة ان فرنسا ليست شيئا واحدا احدا وانها كثير متكاثر لا يؤاخذ منه جانب بجريرة جانب آخر.
كندا :
هذه الاحوال لم تصاحبني حينما حللت في كندا . ليس بيني وبين هذا البلد قصة صبا وطفولة ووصايا ابوية وسجون ومظاهرات ودونية الانسان المستعمر. لم احل في كندا الا وانا شيخ ضعيف مجرب . اما باريز فحللتها شابا يافعا غرا . لكن مع ذلك فاني في كل تجوالي بكندا كنت اقارن ما ارى وما اسمع بباريز وفرنسا . المدينة، مدينة مونريال جزيرة يحيط بها نهر بل بحر سان لوران العظيم ولا يخترقها نهر كباريز . لو وضعت النيل والفرات  فيه لاندثرا ولتصاغرا في أعين الناظرين . جزيرة عظيمة طولا وعرضا. تمتد في ارباض من كل جانب . يخيل الي انها تكسب في الاتساع ما تكسبه مدن اخرى في الارتفاع . دخلتها اول مرة واحسست بان اهلها لا يعنيهم الزائر ولا يزعجهم، وان اتساع مدينتهم وارضهم الممتدة من المحيط الى المحيط اكسبهم تسامحا مع الغريب ورحابة نفس . اردت ان أسأل مقربين لي عن عاداتهم واخلاقهم، ثم اعرضت عن ذلك الى التجريب . هم اصلا فرنسيون ولكنهم فرنسيون مغايرون لاصلهم . القوانين بريطانية  وكوين بريطانيا ماثلة على النقود وتماثيلها في اوتاوا منتصبة امام البرلمان الاتحادي. هم فرنسيون لم يشاركوا في الثورة الفرنسية واتخذ مصيرهم طريقا آخر . ينتقلون من الفرنسية الى الانجليزية في احاديثهم كانتقال المذياع من تلك الى تلك في يد المستمع الشغوف بالاستماع الى الاخبار باللغتين .
لكن ماشاني بكندا ولماذا حللت بها بعد اباء وامتناع ؟ اولادي فيها منذ عشرين سنة  ولم ازرها . الآن زرتها للمرة الرابعة وصرت كالمقيم بها . لا ادري السبب او اتظاهر بذلك . ربما كان السبب ان جيلي صار يحس بالتبضع والتصفر , بانه صار بضاعة او انه كان بضاعة منذ العهد الاول وانه لم يكن شاعرا بذلك من قبل وان العمر المتراكم اظهر ذلك الشعور واخرجه الى علن النفس, يحس بانه فقد انسانيته وصار فيها صفرا . التبضع والتأنسن متنافيان لكن التبضع والصفرية الانسانية متلازمان .
 لم يكن لي عهد بالاحساس بالتبضع والتصفر في عهد الشباب . ولم انتبه لذلك في سنوات الاملن سنوات الشباب الراشد والكهولة . لكن مع اطلال ارذل العمر زالت عن عيني الحجب . هل زالت ام هل اتخيل ذلك ؟ الا يكون الاحساس بالتبضع والتصفر حجابا من صنف ظننته غير حجاب . بعد عودتي من فرنسا وجدت نفسي في تناقض مع ما حولي لانني ادركت نسبية الاوضاع، فلم يعد ما كان ويكون من احوالنا كائنا قبل التاريخ ولا معاصرا له . الكل ثمرة التاريخ . احببت ما احببت من فرنسا وكرهت ما كرهت مما حولي وكنت اؤمل ان يتغير العنصر البشري المقبل الى ما هو خير من الجيل الذي عاصر الفصل الختامي من الحماية الفرنسية . لكن الزمان دار دورته فشاهدت في ارذل عمري مسرحيات تعاد وممثلين يتناوبون وافتخارا بالاندحار. هذا يمثل عنترة وهذا خالدا وذاك المامون وذاك ابن ابي سلول وهذا لويس الرابع عشر.
ان الاحساس بالتصفر والتبضع لا يستقر في النفس الا حين يضرب المنطق في نجبينه، وحين تفجر ينابيع اللا معقول، فحينئذ يغدو القابض على منطقه كالقابض على الجمر. واذا قبض على الجمر صار بالنسبة الى من حوله صفرا، وصار في نظر نفسه بضاعة في سوق المجانين او ممثلا لا يلتزم بالنص في مسرحية هوائية الطعم .
اذن فقد نزلت مونتريال على غير حالي حين نزلت باريز . 
في اول الشباب تشاهد اول المسرحية المعادة ولا تعلم انها معادة وتعجبك الوان من القول والردود فيها . وقد تنحاز او لا تنحاز الى طرف من اطرافها . لكنني مع شبابي الغر كنت انظر اليها والى رجالها بعين الريبة والشك . كانت فصولها تمتع ناظري ومسامعي فكنت اتناسي الشك وأوغل في المشاهدة ايغالا واتابع الصراع الدرامي فيها مستمتعا . اما في ارذل العمر فانك تكون شاهدت المسرحية تامة، من بدايتها الى نهايتها وشاهدت وجيب الطبول اعلانا باعادتها . وتلك القصة التي تكرث الشعور وتنجس الفكر وتكرهك على الشعور بانك صفر على الشمال وان الممثلين الذين انقضت اعمارهم او ادوارهم في العرضة المسرحية الماضية كانوا اصفارا على شمال الشمال .
هذه حالي مع كندا التي حملت رحلي اليها. ما حللت بها حتى صرت لا ارى امامي وخلفي وفيَ الا اصفارا وبضاعات بشرية تتتابع في التاريخ وتظن انها اعداد تامة . الغربة ؟ ان التصفر يتناقص في بلاد الغربة ولكنه يشتد حين يجاور المتصفر اصفارا اخرى في قريته او مدينته، اصفارا لا تعلم انها اصفار . 

احمد العلوي
مونريال
21 يناير2016
 


 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved