
كان المعلم الاعظم فى بلدنا فيلسوفا كبيرا اسمه وحش بن أسد ، وكنا قد علمنا فى اول اشتغالنا بالفلسفة ان اول ما يتعلم منها علوم الحساب والهندسة ثم ينتقل بعد ذلك الى العلوم الاخرى علما فعلما الى ان يبلغ حد التعليم علم الفلسفة الاولى؛ وكان المشتهر بين العلماء فى بلدنا مرجعية الفيلسوف الاعظم وحش وان التعلم على يديه شان لا يبلغ اليه الا كبار الشيوخ الذين ابلوا البلاء الحسن فى علوم الفلسفة ونالوا قصب السبق فيها وألفوا فصولا عزيزة فى اصولها وفروعها؛ وكنا نقرا فى كتب الفلاسفة الذين مروا قبلنا اشارات كثيرة الى مرجعية الفيلسوف وحش. لم يكن هذا الفيلسوف مواتا ككل الناس. كان مقتصرا على الحياة في غرفة بقصره لا يخرج ابدا ولا يراه احد من الناس وانما يسمع صوته اولئك الذين بلغوا رتبة الاخذ عنه من كبار الفلاسفة او الخلفاء كما كانوا يدعون . لم يكن مواتا . هذا ما تواتر القول به بين الاجيال المتتابعة . يموت الفلاسفة جيلا بعد جيل وهو لا يموت . وحين ادركنا سن الاخذ الفلسفى اشار اساتذتنا الى قصره وعلمونا نبرات صوته كما هي موصوفة فى الكتب الفلسفية الموروثة، كي نستطيع التعرف عليه حين يحين وقت اخذنا عنه، أي بعد اتمام سنوات طويلة من الاجتهاد فى علوم الفلسفة . كنا اذن عارفين بتلك النبرات وقضينا حوالي عشرين سنة فى التعلم الاول قبل دخولنا عليه وحين دخلنا قصره لم يكن صوته غريبا علينا ولم ندخل الغرفة لان الدخول اليها كان محرما . غايته انه عاصر اجيال الفلاسفة منذ فيثاغورس وانكسمانس وانكسمادرس وكان استاذا لهم مسموع الكلمة ووجدت آثار فى برابى مصر على الاهرام والنواويس تفيد انه كان يعلم كهان مصر ولم يخل اثر فى الارض من دليل على حضوره فى كل اعمال التعليم التى عرفها النوع البشرى . وعاصر ايضا فلاسفة العرب وعلمهم وافتاهم فى الاخذ والترك وتطور به الزمن حتى بلغ عهدنا . تطور به المكان ايضا فلم يخل صقع من الارض من خاتم علمه ولم يخل تعليم من ظل نظرياته . ثبت لنا اذن انه لم يكن مواتا ككل الناس وثبت لنا من دوام حياته ان الاخذ عنه هو عين الصواب اذ لا دليل اصح من الحياة الدائمة التى شهدت له بها اجيال من الفلاسفة المتتابعين قبلنا، وشهدنا له بها بحكم المقاربة والتعلم والاخذ عنه بالرواية . لم يكن يخرج لاحد من الناس ولم يكن احد من الناس براغب فى خروجه . كان الفلاسفة يتواصون بتحريم طلب الرؤية ويجعلونه شرطا لكل تقدم فى علم الفلسفة الكبرى، وكانوا يتوارثون القول بان حياته الدائمة ثمرة اختفائه الدائم، وانه لو تحول من الاختفاء الى الظهور لهلك كما يهلك الناس، ولو هلك لهلكت الفلسفة معه ولهلكت الحضارة والمدنية ٠ وذلك ما كان الفلاسفة فى كل جيل يحاربون من اجل حدوث نقيضه . اذن كان جميع الفلاسفة فى بلدنا يدخلون القصر الذى شيد له ويتعلمون منه ويعرضون عليه كتبهم ويقرأونها عليه ويطلبون منه التجويز . وكان يستقبلهم فرادى من وراء اسوار الغرفة وقد يستقبلهم زرافات ان استدعاهم لامر عام، وكان يجوز لآحادهم وجماعتهم او يعترض عليهم، وكان الحزن يستولى على من لم ينل التجويز منه فكان يمنع من دخول قصره ويلعن لعنا متصلا في كتب الخلفاء . اما الذين نالوه فكانت القضايا التى يعرضونها فى كتبهم تتحول الى ادلة كاشفة فاصلة ويشار اليهم بالبنان وينالون لقب الفيلسوف الرفيع المقام والخليفة الامجد وصاحب الزمان . ولم يكن احد فى بلدنا يخرج عن قاعدة الدليل هذه فلم يكن يقبل قول احد لم يدخل الى قصر المعلم الاعظم وحش ولم ينل التجويز ولو كان من كان .
وجاظ رجل من مكة بقول يلغى الفلسفة ويجيب عن كل الاسئلة ويبسط البدهيات الاولى ويفصل الكلمة الاولى التي هي اصل الكون والكائن وينشر الحقيقة فى لباس لم يخطر ابدا على ذهن وحش واتباعه٠ كان ذلك الرجل يأبى ان ياخذ عن المعلم وحش وكان عالما به وباقواله علما اعظم من علم وحش نفسه، وقد علمنا نحن الخلفاء ذلك بعد ان دخلنا غرفة قصر وحش كما سيتبين، وكان ينهى عن الاخذ عنه٠ كان الراي فى بلدنا الاعتصام بوحش وفلسفته، وحين انتشر مذهب رجل مكة لاسباب لاداعي لتفصيلها هنا ووصل الى بلدنا انتشر بعد ان بدل وغير الا الكتاب الذي جاء به فانه ظل موروثا مهجورا لا يقرأه احد٠ كان راي الفلاسفة والامراء من اتباع وحش هو التقية والتظاهر؛ وحين استقر الامر وزال الخوف كان فلاسفتنا يدخلون الى قصر المعلم الاعظم وحش ويعرضون عليه المذهب المنسوب الى رجل مكة فكان يامرهم بوضع الفلسفة الوحشية في ثنايا احاديث نسبت لذلك الرجل لينسى الناس الكتاب الموروث المهجور الذي جاء به وليشتغلوا باقاويله ٠ اعياهم الامر وانكشفت حيلتهم وعلموا ان لا مفر لجماعتهم من الاندثار ولقصر وحش من الانهيار فسالوه ان يفسر لهم كتاب الاه رجل مكة بصورة تجعله معكاسا للفلسفة الوحشية وتذهب بروحه ٠ انقلب الفلاسفة منذ ذلك التاريخ الى فقهاء لا هم لهم الا تجويز فلسفة سيدهم فى الفاظ الاه رجل مكة . لم يتنازل الفلاسفة الخلفاء عن عشقهم للمعلم الاعظم وحش وقاتلوا بكل السبل اذن لانقاذه من الهلكة حتى تحقق ذلك بثمن هو ارغامه على استبدال بردة الفلسفة بعباءة الفقه والتفسير فظل عندهم بتلك الحيلة المعيار الاول للصحة والصواب . لم يكن ذلك الاستبدال دائما . انما كان يدوم زمنا ثم تتراخى القبضة فيعود الفلاسفة الى انتاج القضايا الوحشية الصريحة ويتركون الفقه والتفسير الا الذين يستعذبون المنافع التى يقتطفونها من سلطتهم الفقهية على العامة الضالة .
فى ايام التراخى تلك قضينا عشرين سنة فى تعلم المبادئ الاولى للفلسفة ثم قضينا بعد ذلك اربعين سنة فى قصر المعلم الاول وحش بن اسد. وحين جاوزنا الستين وبلغنا اعلى المبالغ فى الفلسفة ، واحسسنا باقتراب اجلنا ، وراجعنا الاقدمين من الفلاسفة الذين اخذوا عنه ، وظننا اننا ماضون وتاركوه كما مضوا وتركوه الى ظلماء العدم طبقا لما علمنا ، حين تم ذلك اشتد غمنا وكان فينا من اخبره بذلك وقارن ذلك حدوث ارتجاج كبير ابطل الخطط وعدل الشطط.
حدث فى بلدنا تغير احوال لم يعهد من قبل وأنسانا شدة غمنا بغموم اعظم وأبأس؛ وكان الذين عملوا ذلك التغيير اقوام غزاة من بلد آخر غزونا واسقطوا حكم امرائنا وسفهوا فلسفتنا وشككونا فى امرنا. وكان وحش بن اسد سيدا فيهم قبل اشتداد امرهم وغزوهم بلادنا كما كان سيدا فينا وان كان يتسمى عندهم ويتلبس بصور مخالفة لحاله عندنا٠ قامت فيهم فتن وثورات ذهبت بسلطانه فخربوا قصوره واحرقوا كتب اتباعه واعلنوا تحريم تعليم الفلسفة الوحشية فى بلدهم ثم اتبعوا نقيضها حرفا بحرف الا الذين يختارون غير ذلك من المصابين بجرثومته . وحين راينا حال غزاتنا وحالنا لم يكن لغمنا الا ان يتسع فان سيدنا وحش استاء من الغزو ودعا الى الجهاد والمصاولة . كان جل المحاضرات، التى كان يلقيها علينا معلمنا وسيدنا وحش في تلك الاثناء، عن الموت وفضائله ان حدث بسيف من سيوف غزاتنا او ببندقية او صاروخ من جهتهم ، وكان خلال ذلك يؤصل لنظريته التى كنا نحفظها حفظا ونغتم بها غما لا مزيد عليه ولكننا كنا لا نجد عنها محيصا لسابقتنا في الفلسفة الوحشية وامتناع العمل بما يلغي تلك السابقة ولدرجتنا في الخلافة خلافته في مراتب التعليم في ظاهر اسوار قصره . لم يكن لينسى ان هؤلاء الغزاة طردوه من قصوره فى بلدهم . اختلفت رغباتنا ورغباته وتناقضنا بين فلسفته وبين شهواتنا . هو يريد ان نحارب الغزاة الذين سفهوا امره فى بلدهم واخرجوه من قصوره عندهم وشتتوا اتباعه فى البلاد ونحن نريد ذلك ونريد معه النجاة من العدم الذى تبشرنا به نظرياته عن الموت . كانت نظرياته عن الموت تاج مفرق الفلسفة الكبرى وكان العارف لتلك النظريات يعد فى الرعيل الاول من الفلاسفة، منالخلفاء . وصلنا اذن الى رتبة الخلافة . صرنا خلفاء وحش بن اسد معلم الفلاسفة فى كل العصور والدهور والفيلسوف المرجعي الحي فى كل مكان وزمان. صرنا كبار اهل الارض بمصطلح الفلسفة الوحشية العظمى ولكننا لم نكن نساوى بصلة فى بلدنا ولم نكن نساوى شيئا الا فى منطق معلمنا وحش بن اسد .
أبعد هذه الفلسفة وهذا العمر فى التتلمذ على شيخ شيوخ الفلسفة يطوينا العدم فى آلام مبرحة لا ترتفع ولا تزول ؟؟ سيطوينا العدم فلم يطلب منا مقاومة الغزاة اعداءه الذين سفهوا امره ؟؟ ما الفائدة مادمنا فريسة للعدم في المستقبل ؟ ألا يكفى الجهاد الذى جاهدناه فى التعلم ونشر نظريات المعلم وسهر الليالى فى الفهم والتدبر؟ وماذا كنا نتدبر؟ عبارات اصعب مركبا من متون جبال العوالى فى طريق نخل بعمان؟ ومعاني لا تدرك الا بتفجير خلايا الدماغ ؟ .
أحسسنا بأنا خدعنا ولكن الزاد الفلسفى الذى تقمصناه كان يمنعنا من توجيه الإتهام الى معلمنا . وسألنا معلمنا عن حالنا بعد ان أدرك ضعف المثابرة فى أقوالنا وكتبنا وتقصيرنا في أمر جهاد الغزاة وأجبناه باننا نحس بالغدر والخديعة وبان انهزامنا مع فلسفتنا يشككنا في بدهياتنا وبأننا مع ذلك نبرئ الفلسفة الوحشية من أن تكون سببا في هوان أمرنا على الغزاة وعلى أُمرائنا قبلهم وقلنا له إننا لا نستطيع أن نتخلص من الإحساس باللافائدة ثم استجمعنا شجاعتنا وسألناه عن النظريات والخلود وقلنا له:
- إن الفلاسفة القدماء الذين تتلمذوا عليك هلكوا فهل أنت ممدنا بشيء يقينا الهلاك فنحيا مثلك خالدين أو ينصرنا على الغزاة او يرد علينا بعض حقوقنا التي اغتصبها امراؤنا من قبل ؟
فقال لنا:
- إنما تقيكم نظرياتى من الهلاك الرمزى اذ تظلون أحياء فى الفكر كما ظل من قبلكم أحياء فيكم وما زلتم تذكرونهم فى مجالس التعليم .
فقلنا له :
- نريد أن تعلمنا شيئا من الفلسفة التى تحيا بها فى كل الدهور والتى نريد ان نحيى بها معك . لا نريد أن نموت موتا عدميا ٠ أي بقاء لنا في الغير حين نقفز الى العدم كما علمتنا ؟ وما فائدة النجاة الرمزية حين تهلك اجسادنا ؟.
فقال لنا :
- لا تسألونى عن هذا .
فقلنا له :
- إذن فاخرج الينا .
فقال لنا :
- أنسيتم وصايا الفلاسفة الأُول . إن خرجت هلكت وهلكت الفلسفة . أتريدون هلاك الفلسفة ؟
فقلنا له :
- فلتهلك الفلسفة ان كان فى هلاكها حياة لنا فانه ليس فى حياتها الأبدية، كما تقول، حياة لنا .
كنا جماعة من الخلفاء . كان من حولى مترددين ولم أكن مترددا . رفعت يدى، وأمسكت بمقبض الباب الذى يفضى إلى غرفة المعلم الأول، الغائب المغيب الذي يسمع صوته ولا ترى ذاته ، وحملت فى يدى شمعدانا مشتعلا وضربت الباب بقدمى وتهالكت الباب امامى وامام الخلفاء ودخلت ونظرت أمامى ثم ناديتهم واقتربوا وأدرت الشمعدان فى جنبات الغرفة المظلمة التى لم يكن فيها احد .
خرجنا من الغرفة ثم من القصر ثم اتجهنا إلى غار في جبل كان بعض أتباع رجل مكة قد دفنوا فيه الكتاب المهجور٠ انتزعناه من مكمنه وشرعنا نقرأه ٠ لم نفهم شيئا في أول الامر ٠ خرج الخلفاء بعد يأس وسألوني ان أظل وأن أخبرهم من بعد، وظللت في الغار أقرأ وأتأمل وعلمت بعد جهد شديد إنني اقرأ فيه نفسي ونفوس الناس ٠
احمد العلوى
16 فبراير08