خرج المدرس مغتاظا من الصف، وقد خرج من طوره أيضا، قال إن أحدهم يصفر ويشوش النظام، فلم أستطع أن أكمل التدريس .
ثم تابع رطينه وهو يشكو :
هؤلاء ليسوا طلابا، ولا يستحقون الجلوس على كراسي الصف . ولا يحترمون المدرس؛ كلهم على قلب واحد، فلا يدلونني على الصافر أو ينهونه .
كان قد مر أسبوعان من السنة الدراسية ولم نزل في البداية، حاولت أن أهدئ من روعه، فقلت :
لم أرَ منهم أي حركة تنافي الأخلاق أو عدم الاحترام في الأسبوع الماضي .
قال والغضب يرتعش في شفتيه :
كلهم يسكتون في الجلسات الأولى، ثم يبدؤون شيطنتهم .
كانت حصتهم الثالثة معي، والشغب غالبا ما يبرز عندما يتعب الطلاب .
دخلت الصف، سلمت عليهم، وبعد أن قرأت أسماءهم لأسجل أسماء الغائبين، بدأت التدريس .
لم أكتب الكثير على السبورة ...
وإذا بأحدهم يصفر !
وإذا بصوت الضحك يعلو !
لم أهتم، واستمريت أكمل الحل على السبورة وكأني لم أسمع الصفير .
وإذا بالمصفر يعيد تغريدته !
وضعت قلم الطباشيرعلى المكتب وجلست :
من منكم صفر؟
...................
ولم أنتظر طويلا، ولم يتغلب عليّ الغضب، بل خاطبتهم مبتسما :
ذكرني هذا الصفير بالبلبل.. وهل تعلمون أيها السادة أن البلبل يُسمى عندليبا ؟
ويسمى هَزارا أيضا ؟
ودائما ما يلقبون صاحبي الأصوات الجميلة بالعندليب لحسن تغريدة هذا الطائر الجميل .
وجمع كلمة البلبل : البلابل .
ولكن كيف نجمع كلمة عندليب ؟
أبدى البعض برأيه، حتى كتبت كلمة عنادل على السبورة .
ثم دخلنا في قاموس الأسماء، ولم نخرج منه إلاّ بعد ما اقتطفنا باقة عبق الصف برائحتها العربية .
كان بعضهم يستمع باهتمام، وقد أطبق البعض الآخر ذراعيه يتأمل، ورأيت أكثر من طالب يسجل الملاحظات التي كتبتها على السبورة .
وأنهيت الكلام بالشكر: شكرا لمن ذكرنا بالعندليب .
واتجهت الوجوه نحو الصافر، فأطرق برأسه خجلا .
وأكملت الدرس، وهم يستمعون برغبة بعد الإعراض ذاك، ويكتبون .
ودق الجرس وخرج الطلاب بهدوء .
وعند خروجي، جاء الصافر يعتذر...
أجبته وأنا أربت على كتفه : لا تثريب عليك يا رجل .
ثم همست أكلم نفسي :
لعمري، هذا هو سحر لغة الأم !
لقد حل المشكلة بسهولة .