Vattenfall / قصةٌ ومقال

2018-12-06
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/12f13fc5-a203-486c-bf5b-a5e94dd00424.jpeg
هناك مفارقة كبيرة في تفكير واعتقاد بعض أو الكثير من الناس في البلاد العربية والشرق الأوسط والعراق ان بلاد أوربا والغرب تمثل قيم الاستقامة والنزاهة والحرية وحقوق الانسان وان الحياة فيها ـ وخاصة اذا ما قورنت بحياتنا في الشرق ـ اشبه بالجنّة أو اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة وان المشرفين على حكمها هم حكّام ومسؤولون في منتهى الاستقامة والتفاني والنبل والإخلاص للضمير وهم ساهرون على خدمة شعوبهم متجردون عن المصالح الشخصية انقياء شرفاء، ويأتي التعبير عن هذه الفكرة وهذا الاعتقاد مثلما خبرته شخصياً من زملاء وأصدقاء من العراق ومن اشخاص آخرين من الشرق لم أعرفهم شخصياً عندما يقارنون بين الحكّام في الشرق والحكّام الأوربيين والغربيين، ونتيجةً للسوء البالغ لحكّامنا للأسف الشديد.. قرأت مرةً قولاً رائعاً لشكسبير يقول فيه : كل الشرور تأتي من المقارنة ! وهذه المقارنة تُعقد ويُبنى على اساسها و ياللمفارقة رغم ان الدول الأوربية والولايات المتحدة الأميركية قبل ان تشترك مباشرة في الحرب التي دمَّرت العراق كانت قد صدَّرت لمنطقتنا السلاح ولم تزل تصدر بمليارات الدولارات بل بتريليونات الدولارات اذا شمل الحساب الدقيق كل شيء، وما ينتج عن تصدير هذا السلاح الذي يغذي الحروب والنزاعات في المنطقة معروف اذ ينجم عنه قتل  وتدميرالبشر والبيئة والحياة والمستقبل والأجيال ولطالما دمر السلاح الغربي في العراق مثلاً المدارس والجامعات والمتاحف والمكتبات والمصانع والحقول والمنشآت الحيوية بعد ان فتك بالإنسان أهم الموجودات، وأيضاً بالبيئة والأحياء ثم انه دمر مستقبل البلد وهمش أصحاب المواهب والقابليات والكفاءات في هذا البلد المبدع وأخرج العراق من اطار المنافسة الابداعية الشريفة ! هنا و بأِزاء هذه المفارقة يبرز السؤال الأخلاقي والمعرفي المهم : هل يمكن ان يكون الانسان حاكماً  نبيلا ونزيهاً ومحباً للخير وصاحب ضمير في بلدٍ ما وهو في نفس الآن تاجرُ سلاحٍ شرهٌ وعديم الضمير والشرف الإنساني ومنزوع  النزاهة  في بلدان أُخرى ؟!!.. نسأل هذا السؤال لأن تجار السلاح الرسميين هم مِن الحكومة بل هم من قيادة الحكومة نفسها، فعقود تجارة السلاح في المانيا مثلاً مع الحكومة السعودية تُعقد من قبل وزارة الدفاع في المانيا بموافقة رئيس الوزراء أو رئيسة الوزراء الآن، ورساميل هذه التجارة وأرباحها لا بد ان تأتي في النهاية الى وزارة المالية التي تمنح منها الى احتياجات الوزارات الأخرى، كما ان بضاعة هذه العقود تُنقل براً وبحراً وجواً لتسويقها من قبل اساطيل ومواصلات وزارة النقل وليس من قبل ملائكة مُحلِقين، ولابد ان تكون الصفقات والترتيبات قد تمت بعلم المخابرات الألمانية العالمة بأسرار هذا البلد، ولا بد ان وزارة العدل نفسها قد علمت بشكل أو بآخر وتساهلت في الأمر وتجاهلت قانوناً يحضر على المانيا بيع السلاح في مناطق النزاعات والحروب مثلما نسمع في الاعلام والندوات ونقرأ في الصحف والمجلات، كما ان وزارة العمل لابد ان تكون على علم كامل بأن شغلة وصناعة وتجارة وبيع السلاح قد وفرت الآلاف من فرص العمل للألمان كمهندسين وخبراء وفنيين واداريين وموظفين واستشاريين وعمّال في المانيا وربما خارج حدود المانيا أيضاً !! ان الاحساس بالعدالة وضرورة العدالة واحد وهو اما ان يكون موجوداً أو غير موجود عند الشخص نفسه، وهو إحساس ينطوي على شيء من القداسة أو الطهر مثلما نعتقد، فلا يمكن أبداً ان يكون الشخص حاكماً أو وزيراً متفانياً في خدمة الناس في بلده، نزيهاً، عفيفاً ومتواضعاً وهو في نفس الآن تاجرُ سلاحٍ وذئبٌ شرِهٌ غادرٌ في بلدان أخرى ومع بشر آخرين . وما حدث ويحدث لأطفال اليمن بسبب الاستخدام السعودي للأسلحة الأوربية والغربية مأساة ظاهرة للعيان يصفها الأوربيون أنفسهم انها أكبر كارثة عالمية معاصرة !! وأبان الحرب العراقية ـ الإيرانية علمتُ شخصياً بما لا يقبل الشك من أصدقاء وزملاء ألمان وأوربيين  يعملون في منظمات إنسانية أوربية وعالمية، ومن معلومات ومقالات نشرتها مصادر رصينة ان الكثير من دول العالم ومنها معظم الدول الأوربية التي تنادي بالديمقراطية قد صدَّرت السلاح في آن واحد الى كل من العراق وايران، أي الى طرفيّ الحرب على حد سواء، وهو موقف يحكم بنفسه على نفسه ويبرهن تلقائياً على خطله وزوره وبهتانه ولا انسانيته لأنه لا يتبنى أي التزام أخلاقي فليس من المعقول ان يموِّن المصدِّر طرفيّ الحرب بالسلاح والمعدات الحربية وهو يعتقد بأن الطرفين على حق، فهذا ما يجانب المنطق والواقع أيضاً، واذا اعتقد ان طرفاَ  واحداً على حق فلماذا يصدِّر للطرف الآخر واذا اعتقد ان الطرفين على باطل فلماذا يصدّر لهما الأثنين على حد سواء! لابد ان الأمر ينطوي هنا على  خلل أخلاقي فادح مهول .
 
لقد بلغ حكامنا حداً من السوء الطاغي والفساد البالغ الى درجة اننا بدأنا نبحث عن الخلاص عند أي بديل ونحاول ان نضفي هالة من النزاهة بل والقداسة على بائع السوء ومعلِّم السوء .

ألنزاهة الأخلاقية والعدل والصدق في التعامل والعدالة في الحكم وفي القانون أمور غير موجودة هنا مثلما يتصور اصدقاؤنا وزملاؤنا في الشرق والعراق . انما الانسان المحاصر بواقعٍ رديء وجبروت غاشم وفسادٍ عميم يتسوِّر بالسلطة هو الذي يدفع بالانسان العراقي أو العربي أو الشرقي بأن يفزع الى هذه الأمال وان كانت سرابية أو كاذبة لأنه يريد ان يجد بديلاً جميلاً وعادلاً في هذه الحياة لما يحيطه من قبح وغبن . انه لا يريد ان يصدق ان العالَمَ ظالمٌ وبشعٌ الى هذا الحد، فلا بد من نافذة هناك وكوّة على النور والأمل على الأقل لمنع القنوط الذي يعني  :
 
الموت!! لقد قيل في الشعر العربي على لسان الطغرائي

اعللُ النفسَ بالآمال أرقبها  
ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ

الأحساس بالأمل وجمال الحياة يرتبط بالأحساس بالعدالة فيها، بل انني اعتقد شخصياً ان العدالة ليست مطلباً اخلاقياً فقط بل وانها مطلبٌ جماليٌ أيضاَ وقد عبرتُ عن هذه الفكرة ناقداً القبح الذي تولده السياسات العالمية المهيمنة في أكثر من ندوة ثقافية أو فكرية وفي أكثر من مكان واحد في برلين .
   
الذي يدفعني اليوم بشكل مباشر للكتابة في هذا الموضوع هو تجربة على الصعيد الخاص ولأنني موقنٌ من العلاقة الوثيقة بين الصعيدين الخاص والعام أعتقد وبشدة ان لهذه التجربة علاقة بالصعيد العام أيضاً .
 
منذ بضع سنوات وانا زبون لشركة تجهيز طاقة كهربائية قادمة الى المانيا من السويد وتعتبر من أكبر شركات التزويد بالطاقة الكهربائية في المانيا وأوربا عموماً وقد حلت محل شركة المانية كنت أيضاً زبوناً لها، استلم منها الطاقة الكهربائية لقاء مبلغ شهري، وفي نهاية كل عام يُجرد الحساب السنوي، اسم هذه الشركة  
  Vattenfall
وتعني في السويدية : شلّال الماء
 
قبل أربعة أعوام والى الآن وأنا أدفع الى هذه الشركة المبلغ الشهري عن الكهرباء التي استخدمها بموجب عقد دفع شهري من البنك الذي أمتلك حساباً فيه .. ولكي أتفادى أي تأخير وما يترتب على ذلك من احراج جعلتُ عامداً موعد الدفع في كل شهر مقدماً وفي بداية كل شهر، وعلى وجه التحديد في اليوم الثاني منه وليس في اليوم السابع والعشرين آخر موعد للدفع الشهري، وهكذا استمر البنك في الدفع دون أي تأخير ومن حساب محايد فلا الشركة تطلبني أي مبلغ ولا أنا أطلبها قبل ابرام هذا العقد حيث عمدت قبل ابرام العقد بأيام الى دفع كل مابذمتي للشركة ثم أبرمت عقد تحويل المبلغ شهرياً مع البنك.. مرَّت سنة على هذا المنوال والشركة بدت مقتنعة فهم يستلمون مبلغهم من حسابي في البنك مع بداية كل شهر، الى ان تفتق ذهن أحدهم في الشركة عن فكرة جهنمية حيث اعتبر انني أدفع الحساب متأخراً في كل شهر بحوالي أسبوع فاذا كنت قد دفعت مثلاً في الثاني من تموز اعتبرت الشركة ان هذا الدفع لشهر حزيران وقد وصل لهم متأخراً لمدة اسبوع، وعليه وجب عليَّ دفع غرامة تأخير، في حين ان الحقيقة انني قد سبق وان دفعت لشهر حزيران في الثاني من حزيران، وما دفعته في الثاني من تموز هو لشهر تموز وليس لحزيران الذي سبق وان دفعت مبلغه قبل شهر كامل !! استمرت الشركة في انذاري وهي تراكم الغرامات والتنبيهات وأنا أشرح لهم بالتلفون بلغة المانية واضحة وصريحة وأكتب لهم الرسائل وهم لا يستجيبون الى ان وصل بهم الأمر الى تحذيري عن طريق المحكمة في وسط برلين وعن طريق مكتب للمحاماة خاص بهم في مدينة هامبورغ، هناك حيث من النادر ان ينفع الكلام فأنت مدان ولا تعرف بالتحديد سبب إدانتك !! هل هو اسمك العربي، هل هو انحدارك الديني أو حتى الطائفي، هل هو نشاطك الفكري ومواقفك وما تقوله وتفصح عنه من آراء وتوجهات في الندوات والأماسي الثقافية والفكرية والأدبية التي تشترك فيها في المدينة أو ما تنشره في الصحف والمجلات .. أنت تعرف انك لم تقصر في واجبك كزبون، بل انني وأيم الحق دفعت لشهور عديدة ماهو أعلى من المبلغ المطلوب ولم أذهب الى تبديل عقد الدفع في البنك لأنني فكرت ان الفرق زهيد ولا يسوى الأمر ذهاباً الى البنك وتبديل العقد، ثم ان الشركة ستجمع الفائض عندها وتمنحني إياه في آخر السنة مع جرد الحساب العام .. ولم يحدث هذا الأمر على الاطلاق !! أليوم كنت في المحكمة التي حكمت غيابياً قبل اسبوعين ضدي ولصالح الشركة وبقي لدي الاعتراض على قرار السيد الحاكم ابراهام .. وقبل اسبوع وصلني خبر رفض حكومة مدينة برلين طلباً لي لمنحي منحة تفرّغ لانجاز عمل ادبي، وكان من لجنة التحكيم زميلة لي في دراسة الأدب المقارن في جامعة برلين الحرّة أعرفها أيضاً من الصالونات الأدبية والنشاط الأدبي في المدينة حيث اساهم باصرار وكثافة ويشهد لي بالتفوق  من يجرؤ على الشهادة، ويبدو ان هذا لم يكن كافياً للفوز في منحة سبق وان مُنحت لنكرات أدب، وقد فاز من ضمن الذين فازوا زميل لنا في الدراسة في نفس الجامعة أما الذي كتب لي رسالة الرفض فهو زميل درس أيضاً في القسم نفسه من الجامعة بينما أنا كنت أنشط طلّاب هذا القسم في اختصاصنا داخل الجامعة وخارج الجامعة، وتقرير التوصية الذي أرفقته باعمالي المنشور بعضها مع طلبي من رئيس قسم الأدب العام والأدب المقارن في نفس الجامعة يقول أكثر بكثير مما أقوله أنا عن نفسي  .. أما المنابر التي نشرت فيها فمجرد التمكن من النشر فيها يعتبر تزكيةً للكاتب وامنيةً عند ادباء وشعراء اللغة الألمانية من ألمانيا والنمسا وسويسرا ..أما العمل الجامعي الذي يحتاج زملائي شهرين كاملين لكتابته فقدة كنت أكتبه في يوم واحد في نفس الجامعة وفي لغتهم الألمانية حيث أخذ مني الوضع في العراق ومرض امي وبعض أفراد اسرتي وتشتت العائلة مأخذاً كبيراً والهاني عن التركيز على الدراسة فاذا جاء موعد تقديم العمل شمرت عن ساعدي واعتمدت على نفسي وعلى قابليتي في تأليف المقال الأدبي وصياغة النقد الأدبي عالماً ان زميلاتي وزملائي قد بدأوا قبل شهرين بالاعداد للعمل وجمع المصادر اما أنا فمصادري أوراق بيض اسوِّدُ عشرين ورقة منها بحبري في يوم واحد ثم اقدمه في اليوم الثاني في الموعد المطلوب الى البروفيسور المختص دون اخباره انني انجزت العمل في يوم واحد لكي لا يحس بالاهانة وضآلة مهمته ومهنته .. ولقد ابقيت على هذا السر سراً حتى نلت شهادة الماجستير .. لا شيء ينفعك ياصاحب الضمير ومحب العراق وصاحب التمكن والموهبة طالما كنتَ عفيفاً شريفاً رافضاً للظلم عاشقاً للحرية : حريتك وحرية شعبك ووطنك وحرية الانسان والعالَم  .
 

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved