عودةٌ الى منبعِ الحبِ الأول ، الى العراق.. 2

2017-01-03
من أدب المذكرات ..

في بيتنا في الفهود..
 
بعد ان وصلنا الى بيتنا في الفهود قادمين من مطارالبصرة، وبعد لقاء الأهل والأقرباء والأحبة والأصدقاء وأبناء المنطقة وتناول العشاء سوية في ديوانية بيتنا ووفود جمهرة من أبناء المنطقة بعد العشاء أيضا لمجلس القهوة والشاي ورؤية وجوه أحبة فصلني عنهم الزمن لأكثر من ثلاثة عقود استغربتُ لسرعة التآلف مجدداً، لقد بدوا لي في ودادهم وطيبتهم وعواطفهم وكأنني تركتهم لبضعة شهور فقط، ورغم ان الزمن قد أوغل في تبديل الملامح وداهم شعر الرؤوس بالشيب بيد ان القلوب مازالت على عهود الحب والأخاء والوفاء ... عجيب بل عجيب جداً ان هذه الحروب والحصارات والمقاطعات كلها لم تفت في عضد هؤلاء الناس ولم تربك حساباتهم ولم تجعلهم يخلطون بين الجوهري والثانوي وبين الخالد والعابر وبين الثمين والرخيص ... لقد  صمدوا ببسالتهم المعهودة ونبلهم المعروف وكرمهم المشهود له أمام جبروت الطغيان وزيف العالم ورذالة صاحب القرار فعلَّموا البشرية بأسرها دروساً في البطولة سيفرد لها التاريخ الأنساني صفحات من نور.. أستنهض أحد الأحبة من الشعراء جمهور المجلس والديوان ليقفوا واستأذنني كي أسمح له بقراءة أشعار وأهازيج كتبها لمناسبة قدومي لزيارة الوطن والأهل .. كان يقرأ كل مقطع ويختمه بأهزوجة يرددها معه كل الحاضرين في الديوان على طريقة الهوسة العراقية .. حاز العراق الوطن والعراقيون الأهل على مكان بارز في أشعاره وأهازيجه فكان لي كبير الشرف ان يربط اسمي باسم هذا الوطن العظيم الذي رجعت اليه فقير المال فاستقبلني أهله استقبال الأمراء ... بعد ان انصرف بعض الضيوف وعادوا من بيتنا الى بيوتهم  وبقي معنا في البيت  مَن قدم مِن بعيد تفقدتُ بيتنا الذي أعاد أهلي بناءه في نفس قطعة أرض بيتنا القديم فزاد عدد الغرف وبنوا في الطابق الثاني غرفتين اضافيتين وحمّاماً . لم أحس أبداً ان البيت  في طرازه وتصميمه الجديد غريب عني فهاهم أهلي يسكنون غرفه وجنباته وهاهي أرواح  أبي وأمي وجدتي وخالتي ترف فوق فضائه وبين ثناياه..  بعدها تفقدتُ صديقاً آخر لم أره منذ غادرت الوطن الّا في الأحلام، أحلام اليقظة والمنام، وكنتُ أسأل عنه سؤالي عن الأب والأخ والصديق الحميم وكان يمثل بالنسبة لي كل هؤلاء وربما استغرب مَن اهاتفه من منفاي ومغتربي في المانيا سؤالي عن هذا الصديق بكل هذه اللهفة والحرص على معرفة الحال والمصير وربما يستغرب بعضكم  حين يعلم ان هذا الصديق الذي كنتُ أسأل أهلي عنه هو النهر، نهر المدينة، انه النهر الذي كنتُ اسرِح البصر فيه واليه من شبّاك غرفة الأستقبال في بيتنا طويلاً في الليالي المقمرة وترشدني أمي اليه حين أشكو الضجر بعض الأحيان فيسامرني أروع السمر ويحدّثني بأبهى الحديث، وأي لغة في العالم ترقى الى مستوى لغة الماء والنور!! حتى الأنسان الأمي هناك يدرك في كنهه وجوهره كنه النهر وجوهره !! والّا كيف استطيع ان افسر نصيحة امي التي لم تذهب الى المدرسة في حياتها على الأطلاق ان أذهب الى النهر كي ابدد الشعور بالضجر وكي اشعر بالأرتياح والسرور ؟ أليس في هذه النصيحة ذوق شخصي رفيع وخبرة أجيال جاورتِ النهرَ وتعلمتْ منه وركنتْ اليه ؟
بيتنا في الفهود يقع في حي الأحمدي على ضفة النهر.. يسميه البعض حي المحمدي أيضاً .. بمقايس المنطقة في أيام زمان ـ والمنطقة كلها تتصف بالبساطة ـ  كان حي الأحمدي حياً راقياً وجميلاً بحكم موقعه على النهر ولأن معظم ساكنيه من ميسوري الحال من تجّار سوق المدينة وموظفي الدولة.. كان بامكانك، ببساطة ان تغادر البيت ـ أي بيت في حي الأحمدي ـ  لتكون بعد ممشى دقيقة واحدة أو أقل عند ضفة النهر مباشرة، بل ان بعض البيوت مثل بيت العم السيد عمران وبيت العم الحاج شرهان وبيت العم الحاج وهيل  تقع على مبعدة عشرة امتار فقط من النهر، والنهر هنا هو الغرّاف وهو فرع من دجلة يأتي بعد ان يتفرع من النهر الرئيس بعد مدينة الكوت ليمر بمدن الموفقية والحي والفجر والقلعة والرفاعي والنصر والشطرة وناحية الغرّاف  لينتهي عند الفهود التي تسلمه الى هور الحمّار .. كان عميقاً، جميلاً، واسعاً، متفرعاً ببهاء أخاذ وسخاء باهر، بل ان حتى فروعه كانت عميقة وعامرة بالمياه .. كان يتفرع الى فرعين قبل بيتنا بمئتي متر تقريباً، وبعد بيتنا بمئة متر تقريباً  يتفرع مرّة ثانية الى ثلاثة فروع فيقيم عرساً مائياً حقيقياً في المدينة التي يرعاها ويتعدها بكرمه ويشرف علها بحنانه ويمنحها من عطاياه، وبين فروعه تنشأ جُزرٌ حقيقية، صغيرة وجميلة ويانعة الخضرة على مدار السنة مثل جزيرة السيد صاحب المقابلة لبيت العم سيد عمران بسدرة نبقها العريقة والكبيرة والقوية وجزيرة مردان المقابلة لبيتنا والتي أنشأ فيها العم مردان ميناءً صغيراً لبناء القوارب النهرية التي تُعرف في المنطقة بأسم المشاحيف ويستخدمها بعض سكان المنطقة في التنقل والوصول الى أماكن في قلب الماء لايمكن الوصول اليها بواسطة نقل بري، كنتُ أرى هذا البهاء المائي من موقعين في بيتنا : غرفة الأستقبال التي تنفتح نافذتها على النهر وسطح الدار الذي ننام فوق تربته في ليالي الصيف فنبدو متحدين مع كواكب الفضاء ونجومه حيث سماء الصيف الصافية في جنوب العراق وحيث وضوح بريق النجوم في منطقة صغيرة تقل فيها الأنارة الصناعية ولم تبتعد بعد عن حضن الطبيعة التي تحيط بها ونقاء عناصر الحياة الأولى... كثيرون من أهل المدينة كانوا يعتاشون بالفعل من هدايا الماء : الأسماك، الطيور، القصب، البردي، الرز والحنطة والشعير بالأضافة الى بساتين النخيل التي ماكانت لتكون بتلك الخصوبة بدون النهر وما يحمله من ماء وطمى .
 أكتب عن هذ النهر الآن وأنا أكتب عن ذكريات زيارتي لوطني بعد فراق أِجباري دام أكثر من ثلاثة عقود... أكتب عنه لأنه لأهل المدينة بمثابة الأب والجار والصديق!!! ولأنه الشريان الأبهر في قلب المدينة أِذ بدونه لايمكن تصور هذا المكان على الأطلاق ... حينما كنتُ أهاتف الأهل من المانيا كنتُ أسألهم عن النهر لعلمي ان هناك أنهاراً خُنقت وانهاراً حُولت عن مجاريها وطرق سريانها القديم وأنهاراً غاض فيها الماء وفقدت عنفوانها المعهود.. نهر الغراف في الفهود حدثت معه هذه الأشياء مجتمعة : قُطعت أو حُولت الشرايين التي تغذيه وحولوه عن مساره قبل حوالي مئة متر من بيتنا وقلَّ عمقه واتساعه بل ونقاؤه  أيضاً بشكل ملفت للأنتباه . فهمتُ تماماً تلعثم بعض أهلي وأنا أسألهم عن النهر أثناء مهاتفاتي لهم من المانيا بعد ان وقفتُ على حاله لدى وصولي مباشرة، لقد شاهدتُ كارثة حقيقية بدت وتجلَّت لي أكثر وضوحاً من تجليها للذين رافقوا ضمور النهر تدريجياً أنا الذي تركته متألقاً تحت نور الشمس ونور القمر واسعاً، عميقاً، نقياً، سخياً، أخاذاً في روعته وسحره وجريانه... ومع ضمور النهر ضمرت المساحات الخضراء في المدينة وتراجعت مهنة الفلاحة ومهنة الصيد وهما مهنتان اساسيتان لسكان المنطقة، وتراجع المستوى الجمالي الطبيعي العام الذي كان يتجلى بشكل خاص على ضفاف النهر وفي صفوف النخيل التي تنتظم حولها رفقة أشجار الصفصاف والغرب وعلى الشواطيء وفي قلب البحيرات ـ الأهوار التي يغذيها النهر حيث تنمو بكثافة نباتات القصب والبردي وزنابق الماء. بل انني اعتقد ان تراجع مستوى العناية بالمدينة وتردي مستوى النظافة على الضفاف وفي الشوارع راجعٌ في الأساس الى غياب النهر، فاحساس الأنسان بجمال النهر يجبره على الحفاظ على نظافة ضفافه لأنه سيجالسه ويؤي اليه بل ويشرب مباشرة منه ويسبح فيه، أما اذا غاب النهر فستصبح الضفة مكاناً مهجوراً ومهملاً ومكاناً للمهملات، وقد تجلى لي هذا الأمر واضحاً في مقارنة بين مدينتين هما الفهود والجبايش، فالجبايش المدينة التي يجري فيها الفرات نظيفة وانيقة ومرتبة، والفهود التي انقطع عنها الغرّاف مهملة وعشوائية رغم ان الجبايش والفهود مدينتان في مدينة، فالجبايش قضاء والفهود ناحية تابعة له ويسكنهما نفس الأنسان هو أنسان المنطقة ابن أهوار العراق، ولايمكن ان يُفسر البون الكبير بين المدينتين اللتين كانت أحداهما تكمّل الثانية الّا بوجود الماء في مدينة وانحساره في المدينة الثانية .
سررتُ بالغ السرور حينما بدأ الماء يتدفق من جديد هناك وأنا في آخر أيام زيارتي فاستبشر الناس وخرجوا جماعات ليرموا بأجسادهم الى الماء المتدفق طيورَ ماء عطشى . وها أنا استفسر وأسمع عن تدفق المزيد من الماء .
قبل أسبوع دخلت منطقة الأهوار والمدن الأثرية في هذه المنطقة والمناطق القريبة منها  اور وأريدو واوروك قائمة التراث العالمي فأصبحت أرثاً انسانياً نال اعترافاً دولياً .. لايسعنا الّا ان نتمنى ان تصدق المنظمات  العالمية المشرفة على هذا القرار بعهدها في حفظ ورعاية هذا الأرث الثقافي العالمي الأنساني وأن تكون الجهات الرسمية العراقية بمستوى الأخلاص للوطن والشعب والهوية والتاريخ وذلك لما يخدم الأنسانية وتراث الأنسان وما يُحسِّن حياة أبناء المنطقة الذين لم يعرفوا الهناءة والراحة منذ حوالي أربعة عقود !!!!
هناك شيء أتأسف عليه اذ ضيّعتُ حضور محاضرة عن الأهوار في مركز الجنوب الثقافي في الناصرية  قبل رجوعي الى المانيا مباشرة لأنني كنت مع بعض الأقرباء في ذاك المساء ولم نكن نعلم بموعد المحاضرة بل مررنا مصادفة بالمكان حيث تقام المحاضرة لوجود امكانية للعب كرة تنس الطاولة فيه وهي لعبة احبها منذ طفولتي وكنت اترشح عن مدرستي لخوض السباقات المدرسية في هذه اللعبة مع مدارس المدن الأخرى،  بيد اننا حين وصلنا المكان عرفنا من الجمهور أمرين أولهما ان محاضرة ستعقد حول الأهوار وثانيهما ان التيار الكهربائي مقطوع في هذه الأثناء عن المكان وهم في انتظار عودته ! لذا اقترحنا على أنفسنا الذهاب الى مركز تدريب منتخب الناصرية للشباب الذي سبق وان أعلمنا مدربه هاتفياً في نفس المساء فرحب بقدومنا بأريحية عالية اِذْ كان زميلاً لأحد الأقرباء الذين كانوا في رفقتي في هذا المساء . سأكتب بعض ملاحظاتي عن هذا المنتدى الرياضي وعن المستوى المدهش للتدريب واللاعبات واللاعبين الذين رأيتهم هناك في حلقة قادمة عن مدينة الناصرية، والذي أوصلهم لحيازة بطولة العراق كله لمرّات عدة .
ما أفتقدتُهُ في رحلتي الى الوطن وكنتُ أتمنى ان أحظى بوجوده أو بالأحرى استمراره في الفهود أوفي الجبايش أوفي الناصرية أو البصرة هو التقليد الشعبي الصيفي الذي يرقى الى مستوى الطقوس والمتمثل في النوم على سطوح البيوت صيفاً، بل أحياناً تحمل العوائل مائدة العشاء معها الى السطح وتمضي المساء كله هناك بانتظار النوم والأستفاقة مع ضوء الشمس عند الصباح ! لقد اختفى هذا التقليد الجميل والرومانسي من ليالي العراقيين الصيفية للأسف وباتت سطوح البيوت مهجورة، اِذْ يبدو ان العراقيين فضَّلوا هواء المكيّف المستورد على نسمات أواخر المساء والفجر العذبة العليلة فانسحبوا الى داخل الغرف التي ماكان أحد يطيق النوم فيها في ذلك الزمان، أو ربما بسبب التغيرات المناخية التي صاحبت تجفيف الأهوار حيث ارتفعت درجات الحرارة ولم تعد المساحات المائية الضئيلة المتبقية بقادرة على تلطيف أجواء الصيف العراقي الساخن أصلاً . ومع هذا اتمنى ان يعود هذا التقليد الرائع فله علاقة بتنمية القابلية على التفكير واِعمال الخيال وتوسيع افق الأنسان وأدراكه، فالذي ينظر الى الكون المفتوح على أقاصي الأقاصي بقمره  وكواكبه ونجومه ومجرّاته، ويعانق اللانهاية واللامحدود ليس كمن يصطدم بصرُهُ بحائط لايبعد عنه سوى ثلاثة أو أربعة أمتار ثم يرتد اليه !! كما أنني أعتقد بما يرقى الى اليقين ان في نور النجوم والكواكب والقمر فائدة لجسد الأنسان وروح الأنسان مثل فائدة ضوء الشمس!!

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved