عودةٌ الى منبعِ الحبِّ الأول/من أدب المذكرات 3

2017-02-09
في الناصرية ..
 
تنقَّلتُ في سفرتي الى العراق كثيراً بين مدينتي الصغرى الفهود حيث بيت أبي وأمي ومسقط رأسي وبين مدينتي الكبرى الناصرية التي يسكنها جمع من أقربائي والتي أكملتُ في أعداديتها المركزية الصف السادس العلمي وبهذا المرحلة الثانوية أيضاً .. الناصرية مدينة والفهود مدينة ـ قرية ..والأثنان يشتركان بجود العطاء وقلة الأخذ رغم ان هذه الميزة جنوبية بأمتياز ، فالجنوب أول مَن يمنح ، أول مَن يضحي ، أول مَن يهِبُ ويهبُّ  ، ولكنه آخر مَن يأخذ وآخر مَن يستفيد . ولكي أربط المدينتين بهذا الصدد لا أجد مثالاً أفضل من الطريق الرابط بين المدينة الفرع والمدينة المركز ، بين الفهود والناصرية وامتداده من الفهود الى قضاء الجبايش ،  فقد بقي هذا الطريق ترابياً لسنوات طويلة بل ولعقود منذ تأسيس العراق الحديث الى و قت قريب وحين عُبد في زمن الحروب جاء تعبيده لأغراض عسكرية وللمساعدة في القضاء على الأنتفاضات والمقاومة الجماهيرية التي تنطلق من هذه المناطق ولم يزل الى الآن في حالة مزرية ويتكون من جانب مروري واحد ضيق وخطر ، رغم ان مناطق الفهود والجبايش كانت تصدِّر مايعادل نصف كمية الأسماك  النهرية التي يستهلكها العراق يومياً..ورغم ان المنطقة كلها الناصرية ومدنها التابعة الفهود والجبايش مناطق سياحية طالما وفدَ اليها السيّاح من مختلف أنحاء العالم ...
ذهبتُ الى الناصرية في سفرتي هذه للعراق مراراً زائراً لبيوت أقربائي ومدعواً من قبل أتحاد أدباء الناصرية ومن ثم من مركز الجنوب لأقامة فعاليات ثقافية وأحياء أماسٍ شعرية. وهالني ان ولع  جمهور الناصرية القديم الذي أعرفه جيداً بالأدب والشعر والفن والثقافة لم ينقص أبداً بل تزايد رغم كل أهوال الحروب والحصارات والقمع والأهمال . انه جمهور مولع بالتعلم والحوار والمشاركة الى أبعد حد  ، وقد تأكد لي فضول جمهور الناصرية المعرفي وعشقهم للحوار الثقافي واكتشاف ومعرفة ثقافات وآداب الأمم والشعوب الأخرى وذلك في الأمسية الثقافية التي دعاني اليها الأخوة في أتحاد أدباء ذي قار بعد ان زارنا في بيتنا في الفهود وفدٌ كريم منهم واقترحوا عليَّ أقامة أمسية ثقافية أدبية وليكن الموضوع أدبياً فكرياً حيث اتفقنا على اقامة الأمسية حول ترجمة الأدب الألماني الى العربية ، والحقيقة ان هذا الموضوع هو موضوع رسالتي لنيل شهادة الماجستير من جامعة برلين الحرَّة  في فروع الأدب العربي والأدب العام والأدب المقارن والذي كان في حالتي الدراسية في ثلاث لغات الألمانية والعربية والأنجليزية ، وحيث كان عنوان الرسالة : ( نظريات الترجمة : وجهات نظر حول ترجمة نصوص بعض الشعراء الالمان الى العربية ) . لم يهدأ الحوار طوال الفترة المخصصة للحوار بل ان بعض الزائرين كان لديهم من الآراء والأفكار والأسئلة مايحتاج الى وقت اضافي آخر ، ولم يكن الموضوع غريباً عليهم رغم عدم معرفتهم باللغة الألمانية مما دعاني الى تذكر رأي لي في مدى تعلق أبناء الناصرية بالفكر والأدب والعلم والثقافة وهذا الرأي هو انه لو كان عند المثقف من أهالي الناصرية مبلغ من المال  قد خصصه لشراء قميص جديد  ، وهو متضايق مالياً في هذا الوقت ولايملك سوى هذا المبلغ ،  ثم رأى في محل بيع الكتب ـ وقبل ان يشتري القميص ـ كتاباً جديداً أثار فضوله المعرفي واهتمامه الأدبي أو الثقافي فأنه سيؤجل شراء القميص الى وقت آخر ليشتري الكتاب !! وهوسُ أهل الناصرية بالثقافة والمعرفة والشعر والأدب قديم وهذا مايفسر كثرة الآدباء والشعراء والفنانين والمفكرين الذين أنجبتهم هذه المحافظة . وحين أعود بالذاكرة عقوداً الى الماضي أتذكر ان أخي الكبير أصطحبني طفلاً في أحدى المرّات معه من الفهود الى الناصرية لحضور مهرجان للشعر الشعبي العراقي في المحافظة وأقمنا في مركز المحافظة  ليومين في فندق سومر وسط المدينة ، وفي ذلك الوقت كانت فنادق المدينة مليئة بالزوار من نواحي وأقضية الناصرية ومن مدن العراق الأخرى وان مهرجان الشعر كان شغل الناس الشاغل في المدينة ، وكأن اهل الناصرية  كلهم شعراء أو حافظو شعر!!
ولك ان تتصور ان موظفين أومعلمين أو مدرسين شباباً وفي بداية تعيّنهم يفدون الى مدينة مؤجرين في فندق وآكلين في مطعم ليومين أو أكثر كي لايفوتهم حضور مهرجان شعري!!
من الأشياء التي لفتت انتباهي أيضاً ان الحديث عن الشعر في الناصرية يتضمن دعوة غير مباشرة الى السامع في ان يشاركك الحديث ، ففي أحدى المرات وبينما كنتُ استقل سيارة أجرة  مع أقرباء لي وهم حفظة شعر شعبي وأبوذيّة وزهيري بامتياز وكنّا نتحدث وقتها عن الشعر الشعبي وأذا بسائق التاكسي يشترك معنا في الحديث ويطلب منّا الأصغاء الى جهاز المسجل في السيارة حيث امسية للشعر الشعبي يقرأ فيها شاعر من أهل الشطرة أبوذيات لاحد لعذوبتها وجمالها ، وليخيم علينا السكون حيث تحوَّل الحديث الى أصغاء لاتشوبه الّا صيحات الأستحسان  والأعجاب !!

وحين انتقلُ هنا من جو الى جو ومن باب الى باب وبالمناسبة أيضاً وقد تحدثت قبل قليل عن  سيارة التاكسي فقد أذهلني كرم سائقي سيارات التاكسي في الناصرية وتهذيبهم وربما كان عدد غير قليل منهم من أصحاب المهن الأخرى وربما حتى من الأكاديميين الذي لجأوا الى هذه المهنة جزئياً أو كلياً لأعالة أسرهم بعد ان أصبح الحصول على مهنة ضامنة وكافية في الأختصاص الأكاديمي أمراً صعباً في العراق كله ، أقول أذهلني كرم وتهذيب سوّاق التاكسي في الناصرية لأنك ماصعدت مع أحد منهم وأردت ان تدفع الأجرة في نهاية الطريق الّا ان عرض عليك باخلاص وصدق وأحياناً برجاء والحاح ان تترك دفع الأجرة لتبقى على حسابه ، وفي أحدى المرات وبينما كنت مع أقرباء أيضاً في سيارة تاكسي وحاولنا دفع الأجرة في النهاية عرض علينا السائق وبكل صدق ان نترك الأجرة على حسابه وحينما رفضنا أكَّد علينا ذلك بقوله : خلوها على حسابي أروح لكم فدوة!!

فكّرتُ حينها كم مرَّ على الناس هنا من الضنك ، من الشقاء ، من الفقر المادي ، من النقص في الغذاء والدواء ، من عدم اليقين ماذا يخبيء الغد ومع هذا يتوسل بك كادحُهم ان تترك عنك  دفع أجرة أتعابه وكدحه ليتكفل هو بأيصالك مجاناً .. أحياناً يقول لك أحدهم أرجوك أترك الأمر على حسابي وحين ترفض يقول لك ربما انك لاتملك الكثير أو : أخاف ماعندك !!! .   وفي هذا دعوة صريحة للفقير ان لايدفع أجرة التاكسي ،  فالفقير بأمكانه ان يقول مثلاً : شكراً ..جزاك الله الف خير ، ومن ثم يمضي الى سبيله دون ان يدفع!!
هذا الكرم نفسه الذي يصدر عن الروح والنفس والقلب عشته في بيوت في الناصرية دعيت اليها أو أقمت فيها حيث موائد الطعام العامرة كماً ونوعاً  وحيث الداعي الى الوليمة يقول لك انت مدعو واجلب معك مَن تشاء ولايهم العدد  ، وحيث الطعام في كل وليمة يكفي لأطعام عدة أضعاف عدد الحاضرين ... وهنا اتذكر أيضاً شيئاً من الماضي وأرى من الجميل ان أربط في هذا الموضوع بين الماضي والحاضر طالما ان الحديث عن نفس المكان وأهل نفس المكان وان تعاقبت الأجيال ومرَّ زمان !! . أقول  اتذكر ذاك اليوم من عطلة عدتُ فيها من جامعة البصرة الى بيتنا في الفهود فأقترح عليَّ أخي الكبير جادر ان أرافقه الى مضيف بدر الرميض  شيخ عشائر بني مالك في عموم العراق وأبرز قادة ثورة العشرين وأخر معاقل المقاومة العراقية ضد الأستعمار البريطاني . قدَّم لي أخي مقدمة رائعة عن بدر ـ رحمه الله  ـ وطبائعه وكرمه وشجاعته وسجايا أهله وعلاقتنا العائلية بهم وتبادله الشعر وأبيات الأبوذية مع جدي والد أبي ـ رحمهما الله ـ ، تلك الأشعار والأبيات التي لم يزل يحفظها غيباً بعض أبناء المنطقة ، ثم أخبرني ان سبب زيارتنا هو المباركة بزواج حفيد بدر ، صبري  حامد  بدر الرميض ، وصبري حامد الرميض كان قد درس الفيزياء وتخرج في كلية العلوم جامعة البصرة في نفس القسم الذي كنتُ أدرس فيه بيد أنني لم أعاصره لتخرجه قبل دخولي الى الجامعة ثم ذهابه الى العمل في الكويت بسبب علاقة عائلتهم القوية تاريخياً مع أهل الحكم هناك . بعد هذا أكد لي أخي ان هذه فرصة ومناسبة لي للتعرف على هؤلاء الناس وشمائلهم وهم يسكنون قرب مدينتنا في ضاحية من ضواحي ناحية الأصلاح التابعة للناصرية .  كان قد مرَّ على الزواج حوالي شهر من الزمن لكن أخي معذور لكونه موظفاً مرتبطاً بدوام ... كان الأخ صبري يومذاك مسافراً في شغل ما فاستقبلنا أهله وأخوته . و حينما وصلنا وجلسنا وحان وقت الظهر وكان يوم جمعة هممنا بالأنصراف والأعتذار بيد انهم اخبرونا ان الغداء أُعد وهو على وشك ان يكتمل .. وحينما جاء  الغداء محمولاً الى المضيف  كانت المائدة  المعدَّة  لنا كشخصين عبارة عن خروف كامل طُبخ على شكل قطعة واحدة وطبق رز عملاق وضع الخروف كاملاً فوقه مع صفرية مرق مع الخبز والملحقات الأخرى . كل هذا لرجلين اثنين مع العلم ان مناسبة الزواج قد مرَّ عليها حوالي شهر من الزمان ، ولم يكن أحد منهم على علم بمقدمنا في زمان قلَّ فيه التلفون آنذاك! هذا فضلاً عن حفاوة الأستقبال وعبارات الترحيب التي لاتنقطع وكرم الأخلاق وعذوبة الأحاديث التي تعبر من التاريخ الى الذكريات الى الحكايا الى الشعر وهذا مايتمم كرم المنح المادي كرماً روحياً هو الأهم والأجمل.
كرم بدر الرميض وسالم الخيون وثامر الحمودة  وريسان الكَاصد مازال موروثاً عند أبناء الناصرية ـ وأنا لاأمتدح هؤلاء هنا كشيوخ اقطاعيين بل كرموز وطنية وانسانية وأهل نخوة وشيم وكرم ـ  لهذا يستحي سائق التاكسي ان يأخذ اجرته دون ان يقول لضيفه  ومؤجره انه على استعداد ان يتنازل عن أخذ النقود ، هذه النقود العزيزة  عند كثيرين  أو الفليسات التي مسخت ثلاثة أرباع البشرية وحولت بعض الأحرار الى عبيد وكلفت البعض ضمائرَهم وأرواحَهم وشيمَهم الأنسانية والوطنية بل حوَّلت البعض الآخر الى خونة ومرتزقة  وعملاء ، وهذا ماحدث بالفعل حتى مع بعض المثقفين الذين كانوا يسخرون من كل ما لايمت  بِصلة الى معتقداتهم الفكرية ، ويضحكون من القيم العشائرية !!
ولم يقتصر الأمر على التاكسي بل وحتى المطاعم والمقاهي ،  فوالله لم أدفع طوال سفرتي ثمن قهوة أو شاي أو مشروب بارد  في مقهى طوال فترة اقامتي في العراق وفي الناصرية وضواحيها ، بل ان حساباً ثقيلاً تكفل به صاحب مطعم يقع على فرات الناصرية عني وعن قريبين كانوا معي ، وصاحب المطعم أخ لشاعر صديق كان قد علم بوجودنا في الطابق الثاني الصيفي من مطعمه فقرر ان تكون جلستنا على حسابه رغم محاولتنا دفع الحساب لأحد عمّالِه ِدون علمه !!
حتى الحلّاق الذي ذهبت اليه لقص شعري رفض ان يأخذ اجرة الحلاقة مني لأنه علم ان أباه  كان زميلي وكنّا نلعب في فريق كرة قدم واحد ، وذلك رغم ان محلَّه البسيط في بداية التكوين.

الناصرية ، الى هذا كله ، مدينة التسامح الديني والأختلاف الطائفي والفكري ..هناك مكان للجميع فيها . أغلبية سكانها من المسلمين وفيهم الشيعة والسنة وان كانت الأكثرية من الشيعة ، فهناك الكرماء من آل السعدون يعيشون منذ أكثر من قرن بين أخوانهم من قبائل بني أسد ومالك وكعب وطي وتميم وربيعة وخفاجة وزيد وشمر وسعيد وخاقان  ووائل وخزاعة ،  أتذكر هنا قول الكبير محمد خضير في رائعته بصرياثا حين يكتب : الناصرية مدينة الأصول ..
وهناك أخوتنا الصابئة وهم في الناصرية وأقضيتها ونواحيها في ديارهم وبين أهلهم وقد أقاموا بيوتهم عند دجلة والفرات !! وهناك اخوتنا المسيحيون ووجودهم قديم قدم الناصرية ، وهناك الكرد الفيليون الذين يتركزون خصوصاً في الرفاعي والقلعة ويعيشون بوئام تام الى جنب أخوتهم العرب ، وبين كل هذه الأطياف جمعت صداقات وعلاقات حميمة بل وأواصر تزاوج في كثير من الأحيان..بل انك لتجد في بعض الأحيان أحد أبناء الناصرية ممن تجري في عروقه دماء لثلاثة أو أربعة مكونات سكّانية  ، وماهذا بالمستبعد والغريب!! 
أميل الى الأعتقاد ان قبول أهل الناصرية للآخر ولبعضهم على اختلاف المذاهب والأديان  والقوميات والأفكار راجع الى ماضي هذه المدنة العريق والمدن التي قامت على أرضها  والى جوارها منذ زمن دول الدويلات السومرية عبر تأسيسها الحديث نسبياً قبل 147 عاماً والى الآن...فمنذ اكثر من ستة آلاف عام والأرض السومرية في أور وأريدو وأوروك تستقبل الهجرات والوافدين وتضمهم الى قلبها الكبير الطّيب وتطعمهم من نخيلها وأشجارها وماتجود به تربتها الحانية ومياهها الواهبة الكريمة . أو ليست مدينة ابراهيم قبل نشوء الأديان ومدينة الحرف الأول قبل الكتابة ومدينة الفلك قبل مراكب الفضاء ومدينة الطب قبل المستشفيات ومدينة العدالة قبل المحاكم ومدينة الزقورات قبل المعمار ومدينة الشعر قبل دور النشر؟! 
وللحديث صلة في حلقة قادمة...

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved