عودةٌ الى منبع الحب الأول/الى العراق !! الحلقة الأولى..

2016-12-06
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/12f13fc5-a203-486c-bf5b-a5e94dd00424.jpeg

من أدب المذكرات..

 انْ تطل من السماء باحثاً عن بساتين النخيل وفروع الأنهار في أرض وطن فارقته منذ أمد بعيد بعيد ، انْ تحاول ان تجد مكاناً لك جنب نافذة من نوافذ الطائرة لتشرئب كطفل مهوّس باكتشاف العالم ، ان تعود باحثاً عن شجر ظللك وبستان نخيل كنت تطالع فيه دروسك وتأكل من ثمره وعن نهر شربت منه بيديك مباشرة ونزلت  اليه سابحاً في مياهه ، ان تبحث عن لون التراب الذي درجت عليه أقدامك الحافية زاحفاً وناقلاً خطواتك الأولى ...كل هذا يعود وينتمي الى عوالم الجلال والرهبة  ، هو  حلم وحقيقة ، غيب ومحسوس ، ماضٍ وحاضر ، حياة وموت  ، ربيع وخريف  ، محال وواقع ، سراب وماء ،  نعم هو كل هذا بل وأكثر من هذا ...للوطن علاقة بالتكوين الأول ، ببداية الخلق والتشيّء ، بالطفولة ، باللغة في فجر تعلم اللغة ،  ببدء الوعي والتفكير ، بالحب الأول ، بالأبجدية الأولى ، بالعائلة والبيت والأرض ، بالأنتماء الى المجتمع الأول : الأسرة ، الحي ، المدرسة ، القرية أو المدينة ... هذه كلها درجات في الأنتماء الى الوطن وبنفس القدر درجات في الأنتماء الى الأنسانية والى الثقافة الأنسانية أذ انني اعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الأنتماء الى الوطن هو حجر الأساس في الأنتماء الى الأنسانية  ، وحب الوطن هو الخطوة الأهم على طريق حب الأنسانية فلا يمكن لأنسان يكره وطنه ان يحب العالم والبشرية ولا لأنسان ينكر أو يهمل الأنتماء الى وطنه ان يدعي الأنتماء الى الأنسانية .. الأممية الكبرى وفكرة المواطن العالمي تبدأ من حب الوطن ، ومن يكره وطنه مريض أو انه يتمرض بسبب هذا الكره والمريض بالكره أو من الكره لايمكن له ان يكون مواطناً عالمياً... الوطن ليس الحكومة التي تحكمه ولا الحكومات التي تحكمه ، وهو ليس مجموع أخطاء حاكميه ولامجموع أخطاء بنيه أو الأحزاب التي تأسست وهي تهتف باسمه ثم نامت بأحضان الغرباء ومنحتهم كل شيء أو قادتهم الى الوطن ودلتهم عليه . الوطن بأعلى تشبيه وأقدس تشبيه واكثر التشابيه واقعية هو الأم : رحم الأم وصدر الأم وحجر الأم وبيت الأم وحب الأم .  والوطن هو التربة والشجرة مانحة الأكل والعطر والظل والهواء النقي والخضرة والجمال والوقود والدفء! والوطن هو النهر وينبوع الماء والجدول والساقية والبئر والبحيرة وكل مصدر مياه يرعى التربة الأولى ويروي عطش أهلها ويسقي زروعهم...
ينهار كل شيء في الأنسان حينما تنتهي علاقته بوطنه ، والعلاقة بالوطن من الممكن ان تنتهي حينما يكون الأنسان في الخارج أوفي الداخل !!
ومن الممكن ان يعيش الأنسان في الخارج ويقدم لوطنه أروع وأجل وأسمى آيات الحب والأخلاص والوفاء : يدافع عنه ويرفع اسمه في المحافل وينتصر لأهله ان وقع عليهم ظلم ويشيد بأنجازاته وابداعات ابنائه ويكون صوته النبيل العالي الذي لايُشترى ولا يُباع ولايمكن اخراسه لابالترغيب ولا بالترهيب ولا بالخداع !!!
زرتُ وطني العراق الذي لم انقطع عنه روحياً وقلبياً وعقلياً وغبت عنه جسدياً لما يزيد عن ثلاثين سنة...كنتُ متوجساً ان يكون كل شيء قد تغيَّر نحو الأسوأ أو تدهور : الناس والعمران والعلاقات والمدن والقرى والأرواح والقلوب والعقول والأنهار والبساتين ، ولشدما خشيت ان الحب العراقي قد تراجع ولم تعد قلوب العراقيين تنبض بالود والحب والعشق والوجد ، واذا بي أتأكد تماماً ان الحب لايزال تاجاً على رؤوس العراقيين يلبسونه ويفخرون به وما لهم عنه من بديل !!
الحب في العراق بخير والف خير والكرم لم يزل سيد الأخلاق والعاطفة الغزيرة السمحاء لم تزل والشهامة لم تزل والرغبة في الأنتماء لكل ماهو نبيل وجميل  لم تزل أيضاً!!
صوَّر البعض لي العراقيين وقد تحولوا الى عبيد للمال يسعون خلفه من اين أتى مستعدين للهاث خلفه مهما كلّف الأمر فالتقيت مَن بدد تماماً هذا التصور ، ألتقيت مَن لا يبالي بالمال ولايلهث بأثره ولايقيِّم الناس على أساسه ، فمن الممكن ان يعرف العراقيين انك فقير مال ويستقبلونك استقبالهم للأمراء مبدين حساً مرهفاً الى أبعد حد بمعرفة أبناء وطنهم حتى مَن تغرب منهم منذ عقود !! انهم يميزون ، وهم أذكياء في التمييز الى حد مذهل يجعلهم يتمتعون بموهبة العرّاف والمتنبيء !!

في مطار البصرة ...
استقبلني حشد من أهلي في مطار البصرة ..كان ذلك بعد ظهريوم الثاني عشر من آيار من هذا العام  2016 ...
كنتُ قادماً على طائرة الخطوط الأماراتية من هامبورغ عبر دبي ، من عوالم تتنافس في الرخاء والبذخ ، برلين ثم هامبورغ ثم دبي التي امضيت فيها مايقارب يومين وليلة وأذهلني المعمار والتناسق وتقدم الخدمات والمواصلات فيها وفخامة وأبهة مطارها لأحط فيما بعد في مطار البصرة بوضعه البائس للأسف واقفرار وتداعي معالم الشارع الذي يربطه بالمدينة  ... 
أعتصر قلبي ألم ممض ، بيد ان جمهرة ألأهل في سيارتين من النوع الكبير  ، والفرح البادي على الوجوه وألق الحب في العيون والدفء في الكلمات ، مكنني من أطرد بخبرة خبير مشاعر الحزن والأسى لأمكِّن الأهل من السرور أنا القادم اليهم بعد غياب استمر عنوةً أكثر من ثلاثة عقود !
هذه البصرة ام الثروات الكبرى : العقول أولاً والنخيل ثانياً وخيرات نبات الأرض ثالثاً والأسماك ماهو نهري وبحري منها رابعاً وستطول القائمة قبل ان تختتم بالنفط والغاز وربما تجاوز احتياطي نفط البصرة وحدها احتياطي دولة الامارت العربية كلها بأضعاف !!
للبصرة في جدولي ضمن سفرتي هذه زيارة ثانية سأمكث خلالها في بيوت أقاربي الكثيرة في هذه المدينة مركزاً وضواحي ، اذْ تحاور الأهل حول مكان الأستقبال الأول فقرروا ان يكون البيت الأول بيت أبي وأمي وبيت طفولتي هو البيت الذي يستقبلني في اليوم الأول وأليه يفد الضيوف وتعقد الوليمة الأولى . بيتنا يقع في ناحية الفهود في الناصرية ، والمستقبلون كانوا من أهل الفهود والجبايش والناصرية المركز والبصرة .
اتجهت السيارتان الكبيرتان من البصرة صوب الطريق المائي المؤدي الى الناصرية وهو نفس الطريق الذي كنت أتبعه غالباً حينما كنت طالباً أدرس الفيزياء في كلية العلوم في جامعة البصرة اذ كنتُ أفضل هذا الطريق لتنوع معالمه وتناوب المياه والأخضرار على ضفافه مقارنةً ربالطريق الصحرواي الذي يربط البصرة بالناصرية والذي تكون المعالم فيه
من البداية حتى النهاية  حالة واحدة تقريباً هي حالة الصحراء ، أما الطريق المائي الذي ستسلكه سيارتانا فيمر من البصرة عبر كرمة علي والهارثة والدير الى القرنة فالهوير فالمْدينة فالجبايش ثم الى الفهود ، حيث سيكون قضاء المْدينة آخر مجطة بصرية قبل الدخول الى حدود الناصرية في مدينة الجبايش.
منحني أهلي مكاناً في صدر السيارة  ـ قرب السائق وهو أحد الأقرباء ـ كي أتمكن من الأطلال على معالم الطريق والمدن والأنهار ، مررنا عبر كرمة علي حيث موضع التقاء النهرين العظيمين سابقاً والضامرين ـ مع كل الأسف ـ حالياً دجلة والفرات ... لم يزل في المكان الكثير من الجمال ، من البهاء ، من الجلال ومن الرهبة . هذان هما الثديان اللذان رضع منهما الأنسان الأول والمدن الأولى وهما في الطريق الى توديع العراق بعد ان يلتحما في نهر كبير واحد ارتبط اسمه باسم الجنوب واسم البصرة . شط العرب ، نعم ، اذْ لايمتلك العرب شطاً مثل هذا الشط سوى نهر النيل .رأيت الفروع الكثيرة لشط العرب من نافذة الطائرة ونحن نقترب من مطار البصرة ولم أرَ للأسف النخيل الذي كنت أبحث عنه ، بيد انني سأرى النخيل في البساتين المنتشرة حول ضفتي الطريق وعلى الأخص بين كرمة علي والقرنة وفي المْدينة التي تمتاز بنخيلها القصير والقوي والكثيف وكذلك على ضفة الطريق اليسرى بين الجبايش والفهود لأن الضفة اليمنى كانت اما مغمورة بمياه الهور حيث ينمو نبات القصب والبردي أو أنها اراض زراعية كان قسم منها يُزرع في مواسم زراعة الحبوب ، ولم تستثمر تلك الأرض المعطاءة في العصر الحديث مثلما ينبغي أبداً . وأحزنني ان أرى نبات الأثل الذي أخذ مكان غابات القصب والبردي بعد انحسار أو قطع المياه عن الأهوار وقلَّة مناسيب دجلة والفرات بسبب السدود العملاقة التي أقيمت على منابع وروافد النهرين في تركيا على الأخص بأسناد دولي مبرمج وخبيث!!
قبيل الغروب وصلنا البيت ، بيتنا في الفهود ، بيت أبي وأمي وأخواتي وأخوتي..


في ناحية الفهود ـ الناصرية .

كان المستقبلون في الشارع وقد غصت بهم باحة البيت وغرفة الأستقبال الكبيرة . وقبل ان أدلف الى البيت سأنشغل لبضع دقائق بالسلام والعناق ..ثمة دموع في مقل البعض وحبوب أرز تُنثر فوق رأسي وزغاريد تسبق خطواتي الى البيت ، ثم مشهد دم الفداء ، حيث نُحر كبش على عتبة الدار قرب أقدامي ، لقد تسببتُ في مقتل هذا الكبش المسكين قلتُ وتذكرتُ بريجيت باردو وبعض أصدقائي وزملائي من النباتيين الألمان والأوربيين وعلى الأخص زميلاتي وزملائي في قسم الأدب العام والأدب المقارن الذين كنت أعمل لبعضهم أكلة التبسي العراقي بدون لحم. هنا سترافقني اللحوم والعزائم والأكل الغزير جداً والمتنوع جداً لأسابيع ، ثلاثة أنواع من اللحوم في كل وجبة ماعدا الأسماك في أكثر من نوع من السمك النهري ، جنب نوعين أو ثلاثة من الرز ونوعين أو ثلاثة من المرق مع الخبز والخضر والحلويات  وأصناف الفااكهة وسيدها التمر الذي كنت أفضله وعلى الأخص في طور الرطب منه في طفولتي وشبابي على كل أصناف الفاكهة المحلي منها والمستورد ولم يزل أهلي وأقربائي يتذكرون هذا..ومن حسن الحظ ان حدائق  بيوت معظمهم لم تزل  تحتوي على أصناف فاخرة من النخيل المثمر الذي لم يزل في هذا الوقت من العام في طور الخلال..
جاء العشاء وغرفة الأستقبال رحبة وملأى بالأهل والأقرباء والجيران وأبناء المنطقة من الفهود وأبناء الأعمام من الجبايش وضيوف وأقرباء من الناصرية والبصرة ، وبعد العشاء جاء دور الشعر وقصائد الَّفوها لأستقبال ألأخ والخال والعم وابن العم والصديق  القادم من أوربا ، من ألمانيا . وبأسم الوطن والعراق وبأسم الذي لم يبع الوطن والعراق صدحت الحناجر بالأهازيج على طريقة الهوسة العراقية ، والشعر كله جديد ومُعَد ليوم الأستقبال ، وعندما نهض الديوان كله الصغير والكبير ، الضيف وصاحب المائدة ليهزج وبدأ الرجال بالردح تذكرت الرحالة الأنجليزي ولفريد ثيسجر   ( Wilfred Thesiger )  الذي عاش ثمانية أعوام في أهوار العراق اذْ كان يطلق على هذا النوع من الطقوس اسم رقصة الحرب أو       (    wardance   )   في اللغة الأنجليزية...
وتذكرتُ ماقاله هذا الغريب حينما التقته قناة تلفزيونية بريطانية  ـ وهو في وطنه بريطانيا! ـ عشية حرب الخليج أو حرب التحالف على العراق سائلة اياه عن شعوره وهو يغادر منطقة الأهوار في جنوب العراق حين قال :
حينما غادرت تلك المنطقة شعرتُ بأنني ذاهب الى المنفى والى الأبد.
هذا مايقوله الغريب البريطاني ، فماذا يقول ابن المنطقة المغادر الى أوروبا ؟!!
للحديث صلة في حلقة اخرى ...اِذْ سأكتب مذكرات ومشاهدات وتجارب ومقارنات هذه السفرة في حلقات وأتحدث عن المدن التي زرتها ومكثت فيها : الفهود ، الجبايش ، الناصرية ، سوق الشيوخ والبصرة ...

برلين ، من 22 الى 28 حزيران 2016

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved