
كان من عادة عبد الحميد أن يجلس كل مساء في مقهاه المفضل وحيدا أورفقة شلة الأصدقاء، وذلك حسب الظروف و الأحوال.
كان يستمتع بتلك اللحظات التي يقضيها في المقهى، ولو لسويعة قصيرة، فإذا اتخذ مجلسه المعتاد، وبسط فوق الطاولة جريدته اليومية أو كتابه الشهري، كان سريعا ما يشعر بالألفة والحميمية ويجد ألف سبب وسبب ليطيل قدر الامكان موعده الأثير مع هذا المكان السمّاع للأسرار، اللمّاع بالأضواء، والطافح بمودة الأقران أو خلوة الإنسان بنفسه، بعيدا عن ضغوط يوم كامل، و كانت هذه الخلوة هي ما يرومه الآن صديقنا عبد الحميد. وكانت تستبد بفكره عاصفة من الأفكار والتأملات…
هل ضاعف من حدتها نزعته الفطرية إلى الرومانسية ؟ هل لأنه ولد وسكن دائما في هذه المدينة البحرية الرابضة عند أقدام المحيط ؟ هل لأن البحر معناه حرية وانفتاح وشجاعة وانطلاق وسبر لأغوار المجهول ؟
العرائش... هنا بحر ونهر، وسمك ومد وجزر وحنين الى زمن لم يخلق بعد، وفن وشعر وعيون دافئة، وقرص شمس حزين و أمواج متلاطمة... هنا احتفالية النوارس وعطر البحر وبسمة الدراويش...
"يزعمون أنها ثورة، وتتناقل وسائل الاعلام كل يوم أنها ثورة، بل أكثر من ذلك، فهي في نظرهم ثورات مباركة تندرج في ربيع عربي، كله حراك وتغيير ونضال وتوزيع جديد لأوراق الكوتشينة السياسية."
غير أني - يا أعزائي القراء - لا اتفق بتاتا مع كل ذلك. كيف لها أن تكون ثورة والثورة على رأي القذافي مؤنث الثور ؟ ها ها ها... كيف لها أن تكون ثورة و الثورة الحقيقية تشترط رؤية إستراتيجية وبرنامج عمل واضح وإصلاح سياسي منهجي يتم تطبيقه على مراحل، و، و، و... بدون تصفية للحسابات، أو تحريك عنيف لطاحونة الانتقام من أصدقاء الأمس أو رغبة في استبدال دكتاتورية بأخرى أو جبروت فردي بآخر جماعي ؟؟
متى كانت الفوضى، والتكسير والتقتيل والتخوين والتجريم من طرق الاصلاح والقضاء على الظلم ؟
متى كان الانقلاب على شرعية صناديق الانتخاب ورفض تسمية الجرائم بأسمائها من باب المداهنة واستغباء الرأي العام و كسب ود الغرب على حساب الشعب وسحق الآخر باسم الدين أو النظام أو حب الوطن أو الديمقراطية أو البحث عن المصلحة المشتركة...
متى كان كل ذلك إنسانيا أو مثمرا أو مجديا ؟؟؟
إن الذي يحدث فوضى في فوضى، ولا معنى لكثير من الصراعات والنزاعات والسجالات... لم نعد نفهم من المحق وسط كل هذا، من الجاني؟ من المجني عليه ؟ من الجلاد ومن الضحية ؟ أين يبدأ الحق وأين ينتهي الباطل ؟ ما هي الحدود بين الواقع و الوهم ؟ هل ينقلب السحر على دعاة الفتنة وصناع الأكاذيب ؟
ما معنى كل ما يحدث يا إلهي؟؟؟
دوامة اللامعنى...
توقف عبد الحميد برهة عن التفكير، وجال بعيدا ببصره حيث يتقاطع حد المحيط العميق اللانهائي مع صفحة السماء في عناق أزلي لا مثيل لسحره. وضاعف من سريالية المشهد وقت الغروب الذي لف الدنيا بغلالة من الحزن والأسى.
لم يحتج عبد الحميد الى تكوين سياسي متخصص أو المام بأحدث النظريات الحضارية والجيوستراتيجية حتى يدلي بدلوه و يكون أفكارا شخصية عما يدور هذه الأيام من وقائع جسام ينقبض لها القلب... عما يدور من "ثورة" أم "ما بعد ثورة" في سورية و مصر و تونس و ليبيا. حتى مصطلح الثورة لم يكن متفقا معه بتاتا.
رشف عبد الحميد رشفة أخيرة من فنجانه، لقد كان قلبه باردا مثل هذه القهوة، وكان مستقبل العالم العربي بالنسبة له على كف عفريت، كان مجهولا غامضا لن تنجح حتى أمهر العرافات وقارئات الفناجين في استطلاعه وتبين ملامحه !
وكانت الأفكار تزدحم وتغلي كالمرجل في ذهنه :
" مصر وسورية وليبيا وتونس لم تشهد في واقع الأمر ثورة، ما حصل هو مجرد انتفاضة شعبية على نطاق واسع ضد جيوش الظلم و الفقر والجوع والاحتقار والطبقية الصارخة، قبل أن يلبسها بعض السياسيين رداء المطالب السياسية الذي تفوح منه رائحة كريهة عطنة لنفاق سياسي لا حدود له. المسلسل بدأ بصفعة بوليسية لذات بوعزيزية، و كان ما كان : إضرام للنار في الجسد، وغضب شعبي في تونس، وانتفاضة وانتشار للنار في هشيم دول أخرى...
أكره الثورات، أكره نفاق السياسيين، وتضليل الاعلاميين وتحريض المحللين وانتهازية آخرين. ماذا تحتاج الثورة الحقيقية ؟ التركيز على التنمية الاقتصادية، هذا لأن الشعوب و بكل بساطة تريد أولا الخبز و العيش الكريم..."
نظر عبد الحميد إلى ساعته. انها العاشرة مساء والعتمة مطبقة، غير أن السماء الملتحفة بين ستائر الظلام، تبدو وكأنها تبتسم.
مهدي عامري
أديب و أستاذ جامعي من المغرب
amrimahdi@yahoo.fr