سمعت الصوت الثلاثي لسيارة الشرطة، رأيت أضواءها المبهرة، تقترب من نافذة غرفتي .
نزل شرطيان من السيارة، قرع أحدهما الباب بقوة، تصاعدت ضربات قلبي، وأحسست بها تهزُّ عنقي .
كنت قد وضعت خطة محكمة، للتخلص من مديري النتن، لم أعد أطيق إزعاجه المتكرر لي .
أعمل لديه منذ سبع سنوات، لم يقبل أبدا زيادة راتبي الضئيل، وعدني مرات ومرات، لم يصدق معي يوما .
تجاوزت الأربعين عاما، أنهيت دراستي في كلية الهندسة النسيجية، أكملت بعدها تخصصي في صناعة السجاد في إيران .
عملت لسنوات في معمل للموكيت في دمشق، ثمَّ انتقلت للعمل في مصنع "البيت الدافئ" بحسياء .
بدأت العمل ثماني ساعات، أمَّا الآن فأعمل لإحدى عشرة ساعة يوميا، ولا أعطل إلّا يوما واحدا، ويريد المدير أن نشتغل يوم الجمعة أيضا :
- اقترب الشتاء، وعلينا تصنيع الطلبيات الكثيرة !
أصبح لمعملنا سمعة ممتازة، والبيع لا يتوقف، ولكن مديرنا لا يشبع، فقد تنكرَّ لوعده القديم بتحسين مرتبي الزهيد .
قررت ترك "البيت الدافئ" أكثر من مرة، وتراجعت دائما في لحظة الحقيقة .
أين أعمل، وصناعيو حسياء لا يجرؤون على استقبال الهاربين من الأستاذ ماهر، فهم يخشون غضبه، ولسانه السليط ؟
وضعت الجرح على الملح، واستسلمت لقدري، ولكن قبل شهرين، شعرت بالحظ يبتسم لي أخيرا .
وعدني المدير أن يرسلني إلى طهران في بعثة تدريبية، وحضور معرض عالمي للسجاد، والإستفادة من تعويض سفر جيد .
طلبني إلى مكتبه، ربت على كتفي قرب الباب، دعاني بلطف أبوي مستجد للجلوس :
- يا بني يا صابر، أنت تستحق كل خير، جَهِّز نفسك لتطير إلى طهران قريبا جدا .
خرجت من مكتبه الفخم المكيَّف، لم ألحظ البرد القارس، لم انتظر موعد السفر لأطير .
سبقت روحي أقدامي، من الفرح الذي اجتاحني، نبت لي جناحان من غار فجأة !
وصلت إلى البيت، تذكرت دراجتي النارية، نسيتها غالبا في زاوية المعمل !
لم استطع النوم تلك الليلة، نسيت تجاهل المدير لمعاناتي، واحتقاره جهودي لسنوات، قدَّرت أنَّ ضميره قد صحا، وسامحته على الماضي .
في الصباح التالي، استيقظت بلا أجنحة، امتطيت حذائي، وقصدت المعمل، لم تمر أي حافلة بقربي، أكملت العشرين كيلومتراً المتبقية مشيا .
لم أجد الدراجة في مكانها، سألت عنها العمَّال، أنكر الجميع رؤيتها، بكيت على ضياع ثروتي .
لكن الصدمة الكبرى صعقتني بالأمس، تراجع المدير عن عهوده، أطلق ضحكته الخبيثة، وقال لي :
- خيرها بغيرها، القادمات أفضل من الذاهبات .
تملكني الغيظ، وتبخر آخر حلم لي، بأي تقدم في معمل الأستاذ ماهر .
اكتمل قهري، علمت أنَّ ولده الطالب في جامعة خاصة، حلَّ مكاني في بعثة طهران، رغم انعدام علاقته بالسجاد .
في الليلة الماضية، شغلني التفكير، غلبني السهر، وقبل السابعة صباحا، وصلت لخطة محكمة للخلاص منه نهائيا .
وصلت مبكرا إلى المعمل، دفعت باب الإدارة برجلي، لم أطلب إذن السكرتيرة بالدخول، دخلت مكتبه، كان يُقلِّب أوراقه، ودون سلام، أو إنذار مسبق، قلت له بصوت عالٍّ :
- لقد تحمَّلت ظلمك وقتا طويلا، وهذا اليوم قررت التخلص منك إلى الأبد، ومددت يدي بسرعة إلى الجيب الداخلي، لمعطفي الشتوي .
نفر من الفزع، صلَّح جلسته، طلب الصفح، وعدني بزيادة راتبي فورا، وأن يرسلني ببعثة خارجية قريبا جدا، قال لي بلهجة استعطاف :
- لا تهتم بي، فكِّر بمصيرك، وبحال أمك، إن نفذت تهديدك .
لم ينفعه التوسل، فقد قُضي الأمر .
قبل أن أخرج يدي، صرخت بوجهه :
- اذهب إلى جهنم .
كاد يموت من الرعب، أمسكت بطلب استقالتي، رميت الورقة على مكتبه .
أدرت ظهري بفخر، صفقت الباب خلفي، وعدت بهدوء إلى البيت .
مضى أسبوعان على تركي العمل، كنت قد حررت محضرا في المخفر، شكوت ضياع دراجتي، فتحت الباب للشرطي، بشرني فوراً :
- أوقع حاجز لنا بسارق دراجتك النارية، راجعنا مع وثائقك متى تشاء لاسترجاعها .
لم انتظر طويلاً، ذهبت إلى مستودع محفوظات الشرطة، صعدت على "الموتور"، قدته لأول مرة منتصب الظهر، لم أعد إلى البيت، قمت بجولة لولبية في الشوارع المزدحمة .
ما زلت عاطلا عن العمل، ولكني تخلصت من مديري التافه، أبحث عن عمل حر بلا مدير يتسلط علي .