أخذ عماد البدلة الجديدة من والده، هدية نجاحه في الشهادة الثانوية، ونسي أن يشكره، أو اعتبر ذلك غير ضروري، فهذا واجبه .
كان الأبُ قد أصيب بعجز دائم، سيارة مسرعة بلا نمرة واضحة، صعدت على الرصيف، قرب مصرف التسليف الشعبي في بانياس، وحطمت طرفيه السفليين .
استعاد وعيه بعد أيام، وشيئا من نشاطه بعد أشهر، ولكنه أصبح يجرُّ قدميه جراً، واستحال المشي دون عكازات .
بعد عام واحد، عاد أبو عماد إلى المصرف، وجلس تحت نافذته، لا ليتذكر الحدث المفجع الذي أعطبه إلى الأبد، ولكن ليخرج يده اليسرى من جيبه، وبعد أن كانت منقبضة، فرد أصابعها واحدا تلو الآخر، مدها إلى الأمام، وصرخ بصوت متهدج :
- لله يا محسنين .
تجاهل الجميع معاناة الرجل المسكين، فالجيران اكتفوا بنظرة الإحتقار، واعتبر رجال الشرطة تغاضيهم عنه مساعدة له، وكذلك فعل مدير البنك .
لم يشعر أولاده بأي عار، اتخذوا شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، طالما يعود مساء ومعه بعض المال فلا ضير بالأمر .
رغب عماد بدراسة الحقوق، ولكن مجموعه أهلَّه فقط لدخول قسم اللغة العربية، سطا على أموال والده التي جمعها من جيوب الناس، وحسناتهم .
اتخذ لقب الأستاذ، بعد دقائق قليلة من صدور نتائج البكالوريا، ضغط على أخيه الأصغر ليترك المدرسة، ويذهب للعمل في مصنع الغزل، واستولى على راتبه أيضا .
لبس ثيابا أنيقة، رفع سرواله إلى ما فوق الخصر بشكل ملفت، كأنه يريد أن يقول أنه أهم شاب في المنطقة، وضع عطرا ثقيل الرائحة ليشعر بالأمان الإجتماعي .
احتقر والده، وأعتقد دائما أنه لا يليق به، اعتبر شقيقَه العامل غبيا وسفيها، ولا يستأهل المال الذي يقبضه شهريا، فتولى هو الصرف على العائلة، أو بالأحرى عدم الصرف إلّا على نفسه !
شارف شهر أيلول على نهايته، وصار لزاما على عماد الإلتحاق بجامعته، والسفر إلى الحسكة .
لم يك سعيدا بالدراسة في هذه المدينة البعيدة، ولكنه لم يُقبَل إلّا بها، وأراد على كل حال ترك قريته المتخلفة بنظره، فالناس ستتحدث عنه باحترام كطالب جامعي .
جمَّع عماد مبلغ خمسة آلاف ليرة من والده وأخيه، جهز أغراضه في الحقيبة المعدنية الملونة، التي اشتراها والده قبل عشرين عاما، فقدت بريقها مع الوقت، وكساها بعض الصدأ .
وصل عماد إلى مطار حميميم، اشترى تذكرة إلى القامشلي، اقترب من الطائرة، نفخ صدره بريح الأنفة المتصاعدة .
صعد على الدرج، شعر بخيلاء غير مستجد، ولكنه راسخ، ويليق ببهائه كاملا .
حيَّتْه المضيفة، تمنت له رحلة سعيدة، أشارت له إلى مقعده :
- تفضل، يا أستاذ، تفضل .
لم يتأخر إقلاع الطائرة، كانت ثقته بنفسه ترتفع أيضا، استقرت فوق الغيوم، وهدهدت مع الريح الطيبة .
أمال رأسه صوب النافذة، صغرت البيوت في عينيه، شعر أنه على حق في مواقفه السابقة من أهله، قريته، بانياس، وحتى صديقه حسن، طالب الحقوق ابن الجيران الميسورين والذي كان يراه كبيرا، لكنه الآن في الأسفل على أي حال، وغير مرئي أصلا، وإن حدَّق باتجاهه فلن يبصر إلّا نقاطا سوداء على الأرض، اكتمل فخره .
ما أروع المفاجئة الصاعقة التي يحضرها، سينصت له الجميع في مضافة القرية، وهو يروي مغامرته الرائعة، سيسجل التاريخ اسمه كأول شاب من المنطقة يستقل طائرة، ولو كان في رحلة داخلية، اعتبر الآلاف الأربعة التي دفعها ثمنا يسيرا لنصره الأول على العالم .
حطَّت الطائرة على مدرج مطار القامشلي، قبل أن ينزل منها، حيَّاه الطيار عند الباب، و جامله بالسؤال :
- هل أعجبك الطيران معنا ؟
- نعم على العموم، فإيقاعك مناسب، ولكن انتبه أكثر في الرحلات المقبلة، فصعودك ملأه الإضطراب، ولكن الباقي جيد، ونزولك كان سلسا !
فغر قائد الطائرة فاه، ابتسم، ولم يعلِّق .
مشى عماد الخطوات القليلة نحو المخرج، بقي في جيبه ألف ليرة، لكنه لم يهتم، "اصرف ما في الجيب، يأتي ما في الغيب" .
توجب استكمال الشرف الكبير، اقترب من سيارة الأجرة، قال للسائق بكبر:
- إلى جامعة الحسكة .
فرح السائق بالصيد الثمين :
- ستكلفك الرحلة خمسمائة ليرة، يا أستاذ
- ليس مهما، اتفقنا .
جلس بالمقعد الخلفي، كال له السائق المديح على كرمه ومظهره، وهو يجهل واقعه ومضمونه، تمنى عماد أن يطول الطريق أكثر .
قبل أن ينزل، طلب من السائق أن يدله على أفضل مطعم قريب من الجامعة، نصحه ب "اللقمة الهنيئة" .
استقرَّ على طاولته، أكل بشهية، فوجبة الطائرة الخفيفة لم تكفه، نظر إلى الفاتورة، أربعمائة ليرة، ابتسم له النادل، فناوله خمسمائة ليرة، وقال له :
- لا تعد لي الباقي، إنه إكراميتك .
خطا خارج المطعم الأفخم و الأغلى في الحسكة، ودعه المدير بنفسه، وعمَّاله معه، وأوصلوه إلى الرصيف المقابل للجامعة .
خرج سعيدا، أعطته الحياة أخيرا ما يستحق من احترام وتقدير .
اقترب من سور الجامعة، انتبه إلى اقتراب المساء، و الأهم خلو جيوبه من المال .
ارتطم بالواقع، أين سينام هذه الليلة ؟
لا يعرف أحدا في هذه المدينة، ولم يعد يملك قرشا واحدا بدلا لليلة في فندق ؟
كان التعب قد هدَّ جسده، على مقعد خشبي في حديقة الجامعة، وضع رأسه على حقيبة والده المعدنية، ونام رغم القر .
تمطى بكسل عند الصباح، استجمع نتف جسده البارد، طائرة حياته حطَّت الآن بعنف على تراب الأرض العارية القاسية .
أدرك إفلاسه التام، تمزقت الشرنقة التي حمته، صار وحيدا أمام مصيره، استيقظ من حلم وردي، ليجد نفسه في مقبرة .
كان محتاجا إلى مئة واثنتين وثلاثين ليرة للتسجيل في الجامعة، ومئات غيرها لاستئجار غرفة، وللطعام، وغيره من المصاريف، وهو لا يملك شيئا .
شعر بشيء في معدته الخاوية، لم يعرف طعمه من قبل، هل هو الذل، لم يك متأكدا، فما جربه في الماضي، لعله كان جوعا ؟
بحث في داخله عن حلٍّ ما، ابتدأ باستبعاد الحلول الصعبة، فهو غير مؤهل نفسيا للعمل، هل يتصل بأهله ليرسلوا المال له ؟
اختار الحلَّ الأسهل، أخرج يده اليسرى المختبئة في أطراف كمه، تحسَّس أصابعه المنكمشة، مدَّدها ببطء، تحشرج الصوت، وتعثر على شفتيه الخجلتين :
- عزيز قوم ذل .
سقطت في يده قطعة نقدية، استمرأ دفئها، داعبه رضا خافت، لولا أنَّ تذكر هدر كرامته .
واكب وصولُ أولى الليرات ضياعَ الفرصة الأخيرة ليكون شيئا ذا قيمة في هذه الحياة .
أراد دوما أن يطير، ولم ينتظر نبوت الريش، حلَّقت الطائرة التي أوصلته بأجنحة غيره، فما أسرع السقوط !
تعلَّم شيئا واحدا، أن يبقى ملتصقا بالأرض، فلا يكون بعد ذلك انحدار .
مرَّ أناس آخرون، نظر عماد في عيونهم، وخرج النداء لوحده :
- لله يا محسنين!