حبيبتي :
حين ناجيت عينيك للمرة الأخيرة، كان الخريف قد صار حقيقة واقعة، أخذ لون العسل من ناظريك، وغمسه بزيت الحنين، فصرت لا أعرف الفرق بين الجوى، وأوراق الشجر المُصفَّر .
اعترفت بجنوني عابرا للعمر، فوق حصائر الأيام .
قدماي انغرزت في رمل ما قبل التاريخ، وعبثت برأسي جغرافيا مزقتها صراعات الأمم .
صارت الشام طريق العابرين إلى الجنوب، ودارت عليها الأعاصير الحلزونية، ذهبت بكل لون أخضر، استحلنا إلى لا شيء، أو على الأكثر رسما تقريبيا للفراغ القاتل للشعوب .
أصبح الموت، وكأنه سبيلنا الوحيد للتخلص من الحرب، والتملص من براثنها الآثمة .
بدأت أعرف كيف تبكي الرجال من القهر، ويهيم شابٌّ لا لفراق محبوبته، وإنما دافعا لهزيمة، وفشل ذريع، فتصبح الحكمة المدعاة كذبا مستمرا، ورفضا للإعتراف بخيبات العمر المغادر إلى الفناء .
عندما كان قلبي نابضا بالعشق لم أكن قد تعلمت بعد أسرار الحروف، وحين أتقنت نصف حرفة الكتابة، واقتنيت دواة حبر وورقتين تصلحان لقصيدة غزل، كان زمن عمري قد أصبح ماضيا كاملا، وأحلامي أضحت أهراما من نسيج الأشواق .
بحثت عن عين الحياة، داهمني رجاء وشيءٌ يشبه أملا، لمحت ابتسامة ثغرك...
لم تكن تلك إلاّ التماعة نهاية ما، ما ظننته دموع فرحك بلقائي، لم يكن إلاّ نحيبا لجنائز متلاقية، وعبرات الوداع في عيون أعزَّتي، وما خلته شعرك الأسود الطويل، لم يكُ إلاّ وشاح أمي الحزينة .
ذاك اليوم الربيعي الجميل، أردت أن أبوح لكِ بحبي، لكنك اختفيت قبل أن تسمعي دقات قلبي تتسارع، فلما صعدت الكلمات إلى شفتي، بحت، لكنه كان العتاب المر، والبكاء لهجران وطن .
يوم رأيتك ذاك المساء، برق شعاعٌ مبهرٌ خلف الصورة كلها، جاورتِ السماءُ الأرضَ، فاختلطت النجومُ بإشراق مقلتيك .
قبل لحظة الوداع، أبصرت ما اعتقدت، أنه وجهك الحالم، لكنه كان محيا كل حزين وفاقد.
في عرف الحب لا يهمُّ ما نقول، ولا عدد الكلمات، ولكن متى ننطق، وهل يصل إلى فؤاد من نحبُّ .
كنت أنت ملجأي، أمَّا الآن فصار الملل خيمة العاشقين الوحيدة، والرحيل رفيقا وطنيا للجميع، يقبعون تحت أحمال الأسى، وينظرون إلى ضفة النجاة، يأملون العبور إليها على جسر أخير; آيل للسقوط ; فوق وادي التردُّد .