صعد متثاقلا إلى العربة الأخيرة، ترك الأفضليَّة لأمٍّ تحمل طفلا صغيرا، وتسبقها ابنتها التي تقارب السبع سنوات.
جلست المرأة الشابة قبالته، وأخذت ابنتها مقعدا، بجانب الرجل منقبض الملامح .
بدأ اليأس بقضمه كالجذام منذ ولادته، قبل نصف قرن تقريبا، وابتلعه تماما منذ وفاة زوجته قبل أسابيع .
شعر مُجعَّد طويل; لحية مرسلة; عينان منتفختان من السهر; ثياب غير مكوية ; معطف خاص بكل الفصول ; كلُّ هذا أعطاه منظر الهامشي مكتمل الأوصاف .
كان الإكتئاب صديقه الأقرب، وربما الوحيد، أثناء دراسته في كلية الفنون الجميلة .
لم يتغير الأمر بعد معرضه الأول، وعشرات المشاركات المحلية والخارجية، ولا شهرته شبه العالمية، ومقابلاته الإعلامية المتعددة .
عرفه الكبار والصغار، و أبدع بألوانه المفرحة، أجمل لوحات الربيع .
رسم بريشته المذهلة، زهور نرجس مختبئة بين الصخور السوداء، حقول توليب على مد النظر، زرقة البحر، وخضرة الجبل .
كانت مشكلته الحقيقية مع نفسه، التي قدَّرها دوما دون الصفر بقليل .
عانده الإلهام، فلما عاد إليه، رسم لوحة أخيرة لزوجته، التي داهمها مرض لا يرحم .
نزفت روحه هذه المرة ألوانا حزينة، رسمت وجه حبيبته المغادرة، إلى عالم الفراق الأبدي .
كانت الوحيدة، التي تحمَّلت نزقه، وشروده المستمر، وقرفه من كل شيء، وخوفه من البشر، وحساسيته المفرطة من أقرب الناس إليه .
رحلت ويدها في يديه، رفض الحقيقة المرة أسابيع وأشهر .
جاء كانون الأول صامتا كفراغ لانهاية له، و باردا فوق العادة .
لم يبك فقد كان رجلا بلا دموع، اختنق أو كاد .
كانت زينة عيد الميلاد في كل مكان; أضواء باهرة; أشرطة ملونة; لم يرَ شيئا منه ا.
سقط منه المفتاح مرتين على الحصى المبعثرة الباردة; فتح بوابة المنزل الحديدية بصعوبة .
تجاهل قطة المنزل; ألحت بالاقتراب; ركلها بسأم; ترك لها الباب مفتوحا; لترحل عنه; لم تفعل .
كانت المدفأة باردة، و الجدران تدمع قطيرات قطيرات .
لوحاته مبعثرة في المكان، فُرشَ الرسم، نقوش تضرج أرض الغرف، فوضى عجيبة، ورتابة مألوفة حد الملل .
رمى بنفسه على أقرب كرسي خيزران، لم يأبه بتمزقه، وانفلات خيوطه .
اتصلت به شقيقته، قال أنه بخير، لم يك كذلك .
نظر إلى لوحاته، أحسَّ باشمئزاز، صار مرافقا له منذ سنوات .
قرَّر شيئا ما، ارتدى معطفه الوحيد، اتجه إلى محطة القطارات، تجاهل رذاذ المطر شبه الثلجي .
انطوت نفسه في بقعة صغيرة من بقايا جسده، انكمش داخل ملابسه، انحشر في طابور المسافرين .
نظر بعينين صغيرتين، اخترقتا بكلل الزجاج المثقب، همس إلى الموظفة :
- تذكرة ذهاب دون عودة .
- حلب- دمشق ؟
استفسرت الشابة بتهذيب .
لم يدقق كثيرا بالهدف، قرر الرحيل إلى نقطة نهاية ما، وكفى .
قبل موت حبيبته، كانت حياته كخيط حرير، مهدد بالانقطاع في كل لحظة، أمَّا الآن فكلُّ شيءٍ انصرم، وصار من الماضي .
2
لم يكترث ببكاء الطفل الصغير، بين وقت وآخر، اعتذرت الأم :
- إنَّه مريض، نصحوني بعلاجه، في مشفى الأطفال بالعاصمة .
لم يجب لؤي، ولكنه هزَّ رأسه، كمن يقول، لا بأس .
كان منفصلا عن المشهد العام بمجمله، ضجيج المسافرين، صوت القطار، وحتى الحركة الدائمة للطفلة بقربه .
كل هذا لم يشغله، عن هدف رحلته، التي شاءها أن تكون الأخيرة .
تركزت الفكرة في رأسه المضطرب، مزجها بالسواد .
تخيل نفسه واقفا في النفق، وضوء مبهر يقترب منه، ثم اللا شيء .
أخرجت الفتاة كتابا ملونا، ودفترا أبيض، وعلبة تلوين خشبية .
فتحت الكتاب على صفحة في المنتصف، أخذت تقلد المشهد، وعيناها تلمعان بفرح مذهل .
لم يكن ممكنا لفنان مثله، ولو في حالته تلك، أن يتجاهل توقيعه أسفل الرسم، واسمه على الغلاف الصقيل .
قالت الأم له، دون أن يسألها :
- أنها تحب رسومات لؤي السروجي، وتحاول تقليدها .
قطعَت كلامَ السيدة جلبةٌ كبرى، أشهر رجل مسدسا، صرخ بعنف .
طلب حضور مراقب القطار، وإلّا فأنه سيطلق النار دون تمييز، وأنه يحمل قنابلا ، وحزاما ناسفا، ولن يتردد بتفجير نفسه، إن حاول أحدهم الاقتراب منه .
عمَّ صمت رهيب في العربة، تأخر المراقب .
تابع القطار سيره السريع، وتجاهل الحدث الرهيب .
اغتاظ المسلح، أمسك بوحشية كتف الطفلة الجالسة قرب الرَّسام، وهدد بقتلها فورا .
أصيبت الأم بصدمة، فقدت صوتَها، مدَّت يدها، توسلت للرجل الغاضب، أن يحرِّر ابنتها، تجمدت الصغيرة خوفا .
مضى الوقت بطيئا في العربة، راقب الفنان البائس الحدث، ببرود من مات سلفاً .
ماذا يفعل، هل يقفز من النافذة، ليتخلص من عبث طارئ، أفسد خطته الأولية، أم ينتظر رصاصة طائشة تنهي ألمه، فتكون فعلا طلقة رحمة، لمعذب هارب من الحياة، أو يتأمل المصير المفجع لآخرين، لا يعنونه في شيء ؟!
انتفض في قلبه شيء يشبه الحياة، كطير فوجئ بماء بارد، وهو غافٍ .
قال لنفسه : " أنا اخترت الرحيل على أي حال، ولكن هذا الأحمق اليائس، يريد أن ينتحر، وينهي حياة أبرياء معه " .
أمضى لؤي حياته كلها، وهو ينظر إلى صورة روحه، فلا يرى إلّا الدامس; لكن نظرات الطفلة الخائفة; التي ماتزال ممسكة بكتابها الملون; كمن يتعلق بطوق نجاته; دفعته إلى قرار مغامر .
كانت حياته قبل ذلك، أبعد ما تكون عن المغامرة، خاف حتى من فكرة إنجاب طفل، ولم يغيِّر سكنه أبدا .
حسب مشاريعه الفنية بدقة مُملَّة، عاش منتظراً، فوجد نفسه أمام شغور الأمل .
تأمَّل أخيرا وجه الأم، التي أذهلها الرعب، قفز بغتة، لكم وجه المجرم، سقط السلاح من يده .
لجأت الصغيرة إلى حضن والدتها، تضرَّج المُسلَّح بدمه، فقد الوعي .
جاء مراقب القطار، التقط المسدس، فتش الجاني، لم يكن يحمل قنبلة، ولا حزاما ناسف ا.
لم يهتم بنظرات الإعجاب ببطولته، لكنه لم يخف رضاه، عندما صاح أحد الركاب باسمه :
- ألم تعرفوه، إنَّه الفنان لؤي السروجي؟
انذهلت الطفلة، عندما علمت أن رسامها المفضل، هو من أنقذها من الموت المحقق، بكت أمُّها فرحا .
وصلت الرحلة أخيرا إلى دمشق، دعاه مسؤول المحطة إلى مكتبه، شكره، واقترح عليه أن يصمم رسوما ملونة، تبعث الفرح، لتوضع على عربات القطار، من الداخل والخارج .
قال لؤي، أنه ليس بطلا، لكنه لم يتحمل أن تؤذى طفلة بريئة، دون أي رد فعل منه، وافق على العرض دون تردُّد، ولكنه اشترط أن يكون دون مقابل مادي .
كان ذلك اليوم بداية جديدة له، بعد أن عاش طويلا بعيدا عن الناس .
رأى الطفلة، تعيد رسم أعماله بدهشة، وإعجاب، تغيَّر، هجر للأبد مرآته الكئيبة .